قبل نحو نصف عام كتبت زاوية في هذا الركن بعنوان: (لا تبيعوا ظلاماتكم لأعدائكم).
انحنيت فيها أمام أب حكيم من اللاذقية قتلت ابنته وهي داخل بيتها خلال الشهر الأول من الأحداث، فرأى بعين عقله حقيقة القاتل، ورأى أن الهدف من الجريمة هو خلق جو يساعد على وقوع جرائم أخرى، فما كان منه إلا أن دفن ابنته قبل طلوع الفجر ولم يقبل العزاء فيها، كي يقطع طريق الدم.
كما انحنيت أمام شيخ ٍسُجن في سورية لأكثر من عشرة أعوام، وانتقل فور إطلاق سراحه للعيش في بلد مجاور، وعندما جاءه من يعرض عليه المساهمة في زعزعة الاستقرار داخل سورية، تذكر ما قالته وكيلة وزير الدفاع الأميركي ميشيل فلونوي: «إن الحل للأزمة في سورية يتم من خلال فك ارتباط سورية مع إيران وحزب اللـه وحماس والانخراط في الركب الإستراتيجي لدول الخليج وتسهيل انطلاق عملية السلام مع «إسرائيل» وعندها ستهدأ الأزمة والعنف في سورية. «كان الرجل يشعر أنه قد ظلم من النظام السوري، لكن إحساسه بالظلم لم يمنعه من أن يرى بعين عقله أن المعركة الآن تدور حول وجود سورية نفسها، فقال عبارته التي ستخلده في ذاكرتي ما حييت: «لن أبيع ظلامتي للأميركان».
واليوم أود أن أنحني أمام اثنين آخرين من آباء سورية النبلاء كلاهما من حمص، الأب الأول جاءه ابنه الشاب يبلغه باغتباط أنه قد ضمن الدخول إلى الجنة في ذلك اليوم، ولما سأله عن السبب أبلغه أنه قد قام مع عدد من أصدقائه بقتل رجل الأمن الذي يتردد على جامع الحي، فما كان من الأب إلا أن أخذ ابنه وسلمه للأمن الجنائي.
الأب الثاني كتب حكايته الصديق رامز حسين على صفحته في الفيس بوك. وإليكم خلاصتها: في إحدى القرى التي تقع على أطراف حمص يعيش فلاح بسيط مع أسرته، ولأن ما تغله أرضه الصغيرة من محصول لا يكفي لسداد متطلبات عائلته الكبيرة، فقد كان على أحد الأبناء أن يعمل في المدينة وسرعان ما تبعته أخته، بغرض مساعدة أهلها ومساعدة نفسها أيضاً، لأن حظ الفتاة الموظفة في العثور على زوج يبقى أفضل من حظوظ سواها.
ومع تردي الوضع الأمني في حمص وجد الأخ وأخته نفسيهما بين خيارين كلاهما مر: إما البقاء في البيت وتجاهل تهديدات الإدارة «بفصل أي موظف يتغيب عن دوامه مهما كان موالياً» أو الذهاب إلى العمل وتجاهل تهديدات الطرف الآخر الذي يعتبر «أن كل موظف يداوم هو طلقة في روح الثورة بغض النظر عن انتمائه»، ولكي يثبت كل طرف جدية تهديده فقد تم فصل بعض الموظفين، كما قام المسلحون من الطرف الثاني باغتيال ابنة حارتهم، الدكتورة في الرياضيات لأنها أصرت على الدوام في جامعة البعث.
في كل يوم كانت الأم ترجو ابنها وابنتها عدم الذهاب إلى العمل وفي كل يوم كانت تحصل على الجواب نفسه، فتستسلم داعية لهما بالتيسير.
بعد مدة من انطلاق ميكروباص الضيعة حاملاً الموظفين من أبنائها إلى دوامهم. تناهى إلى مسامع الأهالي صوت رصاص قادم من طرف المدينة الذي قصده الميكرو. بدأت حمى الاتصالات لكن أياً ممن كانوا في الميكرو لم يجب. مرت الأيام ثقيلة مضنية، والأم الثكلى تتنقل بين الشاشات على أمل أن تلمح ولو طرف ثوب مما لبسه ولداها يوم الغياب، أما الأب الفلاح الذي تحجَّرت الدموع في عينيه فقد راح يرفض طلب ابن أخيه إقامة مراسم العزاء لابنه وابنته. بعد أيام قرر ابن الأخ الانتقام، فقام مع عدد من رفاقه بخطف شابين من أبناء المدينة يقومان بتمديد الكهرباء في ضيعة مجاورة.
يومها علا قرع صاخب على باب بيت الفلاح، وما أن قام بفتح الباب حتى اندفع ابن أخيه الغاضب مع رفاقه إلى الداخل، ورموا بالشابين المخطوفين أمامه على الأرض. تساءل الفلاح عما يجري، فأبلغه ابن أخيه أن هؤلاء «بدلاً من ولديه». عندها دخل الأب إلى البيت دون أن ينطق بحرف ثم خرج حاملاً بندقية صيد وجهها نحو ابن أخيه ورفاقه صارخاً فيهم: إن من سيمس أياً من الشابين فسيحصل على طلقة في صدره، وقبل أن يستيقظ الشباب من ذهولهم فوجئوا بالفلاح يأمرهم بأن (ينقلعوا) من بيته!
بعد خروج الخاطفين طلب الفلاح من زوجته أن تعد الطعام للمخطوفين فشكروه ذاهلين، وعندما صمم أنه لا يمكن لهما أن يخرجا دون ضيافة، وافقا على شرب كأس متة معه. بعد ذلك اتصل الأب بابن أخيه وطلب منه إعادة الشباب إلى حيث يريدون، كما أمره أن يقوم عقب عودته بنصب شادر العزاء. طوبى لآباء سورية النبلاء! حسن م. يوسف