اشتهر استخدام كلمة ربيع منذ حدوث (ربيع براغ) عام 1968 حين قاد الزعيم التشيكوسلوفاكي ( دوبتشيك ) متضامناً معه فريق من الإصلاحيين الموجودين معه في الحكم , وبتأييد شعبي واسع حركة للتغيير . ولكنها سرعان ما وئِدت تحت وقع دبابات حلف وارسو .
وما يجري الآن في المنطقة العربية , يحلو للبعض أن يسميه الربيع العربي أو الانتفاضة أو الأزمة أو الثورة .
و بغض النظر عن التسمية فإن الأمور لا تقاس إلّا بنتائجها , ولكن من الواضح أن ما يجري سيغير وجه المنطقة .
وإذا حاولنا البحث عن العوامل الداخلية والخارجية لهذا الربيع , ولماذا حدث الآن ؟ وما هي القشة التي قصمت ظهر البعير ؟ رغم أن الكثير من المعطيات الداخلية لم تتغير منذ نصف قرن تقريباً , كما أن دولا عربية عدة لم يحدث فيها حراك واسع , وإن كان قد بدأ في بعضها , إلّا أنه سرعان ما قـُمع و توقف , رغم أنها تشترك مع الدول الأخرى بنفس المعطيات بل تزيدها سوءاً.
فغياب الديمقراطية , وعدم التوزيع العادل للثروة , والتضييق على الحريات , هي صفة عامة لجميع الدول العربية , وإن كان هامش الحرية يختلف بدرجات متفاوتة من دولة إلى أخرى .
ولا بد أن نأخذ بعين الاعتبار الدول المحيطة بفلسطين المحتلة , وما يخلقه تحدي وجود إسرائيل وتهديدها المباشر من أزمات تنعكس على نفسية تلك الشعوب , ومستوى معيشتها .
فهل حدوث هذا الربيع كان نتيجة الإحساس بانسداد الأفق ؟
أم الشعور بالتهميش على المستويين الداخلي والخارجي ؟ أم الشعور بجسامة التحديات الخارجية بدون وجود معطيات داخلية كافية لصدها ؟ أم بجميع هذه العوامل مجتمعة ؟
أم أن هناك عوامل أخرى لعبت دوراً في حدوث هذا الربيع العربي ؟
إن سقوط نظام الثنائية القطبية عند انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 جعل العالم تحت هيمنة الأحادية القطبية , ولم تكن أمريكا مهيأة لقيادة العالم , فمواطن الخلل كانت باديةً للكاتب المسرحي الانكليزي الساخر ( برنارد شو ) حين وصفها : ” أمريكا عملاق ضخم ولكن قدميه من فخار ” , وبدا واضحاً أن العالم يتخبط , وأن هذه القوة الجبارة لا تبصر جيداً .
كما أن انهيار النظام الشمولي الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق أحدث زلزالاً كبيراً كانت أولى اهتزازاته الارتدادية دول المنظومة الشيوعية التي تدور في فلك موسكو , وما لبثت هذه الموجات الارتدادية تتالي في جميع أرجاء العالم , ويبدو أنها وصلت إلى منطقتنا الآن .
بالإضافة إلى ذلك وقعت الرأسمالية في مأزق أزماتها الاقتصادية وهي التي كانت تدَّعي بأن نظام السوق يصحح نفسه بنفسه , إلا أن المديونيات الضخمة للعديد من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية , والانكماش في اقتصادياتها خلق أزمة عالمية من نوع جديد .
فقد كانت الدول الصناعية الغربية الكبرى في العالم تحصل على ثلاثة أرباع الدخل القومي العالمي منذ ثلاثة عقود , والآن أصبحت تحصل على أقل من نصف الدخل القومي العالمي .
كذلك فإن نشوء قوى عالمية صاعدة مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا بالإضافة إلى نهوض روسيا من جديد جعل للعالم شكلاً جديداً , فهي إعادة تموضع لشكل القوة في العالم والتي أساسها الاقتصاد . أي أن العالم في طور تشكل التعددية القطبية , التي قد تساهم إلى حد بعيد في إعادة التوازن لمصلحة الدول المستضعفة .
ووسط هذا التشكل الجديد للعالم تحاول الدول الاستعمارية أن تنال السبق في إعادة صياغة منطقتنا لأمد طويل لتكون ورقة ضغط على القوى الصاعدة في العالم .
فليس البترول وحده هو ما يطمحون إليه , ولكن الطاقة الشمسية التي تعتبر أربع دول عربية هي من أكثر دول العالم التي بيئتها مؤهلة لاستغلالها وهذه الدول هي ( مصر – ليبيا – الجزائر – السعودية ) وتستطيع هذه الدول أن تمد العالم بمعظم حاجته من الطاقة وإلى أمد غير منظور , خصوصاَ بعد أن ينضب البترول في نهاية هذا القرن , وبعد إعلان العديد من الدول الصناعية تخليها عن المفاعلات النووية لتوليد الطاقة في غضون عقدين من الزمن .
وقد جرت مفاوضات جدية بين الاتحاد الأوروبي والجزائر لإقامة منشآت الخلايا الشمسية في الصحراء الكبرى , ولكن الجزائر لم تقبل الشروط المجحفة بحقها .
وبالتأكيد فإن دول الناتو دفعت باتجاه هذا الربيع العربي لتحصل على مكاسب فورية تقدر بمئات المليارات من الدولارات من خلال مصادرة أموال , أو دفع فاتورة الحرب على ليبيا , أو دفع تكاليف إعادة اعمار ليبيا بعد الخراب الذي كانت طائراتهم هي المتسبب الرئيسي بإحداثه , ونأمل أن لا ينطبق على الشعب الليبي العظيم المثل الشعبي ( كالمستجير من الرمضاء بالنار ).
ولابد من إضافة عامل آخر وهو دور الدول الإقليمية الكبرى ومحاولة ملء الفراغ الكبير الذي خلَّفه غياب الدور المصري والفراغ الإيديولوجي , لذا تحاول صياغة إيديولوجية جديدة قوامها المزاوجة بين الدين والسياسة , كما فعلت أوروبا حين حكمت الكنيسة في العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة , فأقامت محاكم التفتيش ثم ما لبثت أن تحالفت مع ملوك وإقطاعيي أوروبا , ولكن أتت الثورة الفرنسية وحركة الاحتجاج البروتسنتينية والثورة الصناعية ليتم تفكيك هذا التحالف .
وعاد الفاتيكان ليقتصر دوره على الإرشاد الروحي والطقوس الكنسية .
فهل يحق لنا أن نتساءل ؟ هل تحجيم دور السعودية في العالمين العربي والإسلامي خلال العقد المنصرم يصب في هذا الاتجاه ؟ أي تقسيم السعودية من أجل خلق فاتيكان إسلامي يهتم فيه خادم الحرمين الشريفين بالأماكن المقدسة , وليتم عزله عن منابع النفط , وبالتالي عن السياسة ؟ وهل صراع الحضارات سينتهي عند هذه النقطة كما قد يكون تخيله ( صموئيل هنتغتون ) ؟
أسئلة كثيرة لا أحد يملك الإجابة عنها , ولكن نأمل أن لا يصيب أي بلد عربي مكروه يمس أمنه وسيادته .
ولكن يحق لنا أن نتساءل ونُعمل العقل , ونستفيد من تجارب الأمم الأخرى , خصوصاً في العصر الحديث , وفي حالات مماثلة , وكيف بدأ الربيع في تلك الدول ؟ وإلى ما آلت إليه الأمور؟
فإذا عدنا إلى الربيع الذي حدث في موسكو ودول أوروبا الشرقية فإننا نجد أن ربيع براغ وربيع موسكو بدأ كل منهما من أعلى الهرم , وطبعاً كانت القاعدة مهيأة لذلك فعندما استلم الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف زعامة الحزب الشيوعي عام 1985 طرح مفهوم ( غلاسنوست ) والتي كانت تعني أن يتحدث السوفييت بصوت عالٍ منتقدين مسيرة الدولة والحزب بدل ان يتحدثوا همساً . وما لبث أن طرح مفهوم ( بيريسترويكا ) والتي تعني إعادة البناء . أي بناء الدولة والمجتمع ثم أكمل رئيس جمهورية روسيا الاتحادية يالتسين المسيرة ليفكك الاتحاد السوفييتي ويتخلص من الشيوعية , ولكن عن طريق ديمقراطية وليدة عرفتها روسيا لأول مرة في تاريخها .
أما في بقية دول أوروبا الشرقية فإن الربيع فيها حدث من أسفل إلى أعلى . وعلى سبيل المثال ( ربيع وارسو ) الذي قاده عامل بناء السفن ليخ فاليسا الذي أصبح فيما بعد رئيساً للدولة .
ونجد أن الصفة المميزة لما حدث في تلك الدول هو السلمية في إحداث التغيير , فلم يتم استخدام العنف إلا فيما ندر ولم يتم المساس ببنية الدولة , لذلك لم تتكبد تلك الدول نفقات إعادة الإعمار , ويعود ذلك لأسباب عدة :
عدم وجود نزاعات أثنية أو دينية , الرؤية الواضحة لما كانوا يريدون إحداثه من تغيير , عدم لجوئهم إلى الإقصاء , شعورهم بأن النظام الشمولي لم يعد صالحاً لهم , انتقاد معظمهم للشيوعية فقد وصفها أعداؤها بأنها أخذت من الإنسان أكثر مما أعطته , عدم وجود تدخل خارجي سافر .
أما الاستثناء الوحيد فهو ( يوغوسلافيا ) السابقة . حيث حدثت حرب أهلية دموية نتج عنها تفتت البلاد إلى شظايا , ومن أسباب ذلك وجود نزاعات أثنية ودينية سمحت بتدخل خارجي واسع بناءً على طلب أكثر من فريق منهم .
ومن تتبعنا لحركة التغيير عند كثير من الأمم , نجد أنها أحدثت نتائج إيجابية , ولكن كان لمفرزاتها آثاراً سلبية أيضاً .
فما حدث في موسكو أكسب الروس نظاماً جديداً اختاروه بمحض إرادتهم ولكنهم خسروا موقعهم كأحد قطبين يتحكمان في العالم , كذلك تم نهب القطـَّاع العام على نطاق واسع عبر برامج الخصخصة , لتنشأ طبقة فاحشة الثراء , وفي زمن قياسي !!
وما حدث في باريس عام 1968 أكسب الطلاب والعمال الذين انتفضوا في وجه رئيسهم الجنرال ديغول ما كانوا يطالبون به بعد أن استقال اثر خسارته لمشروعه الإصلاحي في الاستفتاء , ولكن خسروا مشروعه في أن يجعل من فرنسا قطباً ثالثاً في العالم من خلال تزعمه لأوروبا الموحدة , والتي بدأ خطواته العملية بهذا الاتجاه من خلال انسحابه من الجناح العسكري لحلف الأطلسي ومحاولة تصفية دور فرنسا الاستعماري , ومد يد التعاون والصداقة نحو الشرق الشيوعي , ليخلق نوعاً من التوازن بين القطبين العالميين .
وإذا أردنا أن نقيس مدى الربح أو الخسارة الناتجة عن حركات التغيير , فإننا لا نجد ميزاناً منطقياً صالحاً لذلك , فلكل مفصل من حركة التاريخ مقتضياته .
وما نشهده من حدوث هذا الربيع العربي في عدة دول عربية , لا بد أن يعقبه امتداد ولو بعد حين إلى دول أخرى تعتقد أنها بمنأى عن حدوثه .
وبالتأكيد ستختلف النتائج التي سيتمخض عنها من دولة إلى أخرى , حسب أهمية تلك الدولة , وحسب وعي شعبها , وبعد أن يأخذ الصراع الدولي شكله النهائي حول هذه المنطقة , ولا يستطيع أحد الآن أن يتكهن بالنتائج النهائية , ولكن من المؤكد أنها ستترك آثاراً بالغة الأهمية على مستقبل الأجيال القادمة .
كما أنه من السابق لأوانه القول بحدوث ربيع آخر بعد عقد أو عقدين من الزمن , لأن ذلك يتوقف على مدى رضا الشعوب حول ما أنجزته , فالأخطار المحدقة بنا كبيرة , كما أن الأمراض الاجتماعية التي نعاني منها كثيرة .
صحيح أن هذا الربيع لابد أن ينبت أزهاراً تعد بثمار طيبة , ولكن لدينا شجرة بذرتها فاسدة , وثمارها التفرقة بشتى صنوفها من طائفية وقبلية وعرقية وقومية , يرعاها الفاسدون من أبناء جلدتنا وترويها الدول الطامعة بثرواتنا , فلا بد أن نسارع إلى قطعها قبل أن يأكل من ثمارها أبناؤنا , وكما قال السيد المسيح ” (كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تـُقطع وتـُلقى في النار . فإذاً من ثمارهم تعرفونهم ) .
إن لشعوبنا الحق في أن تحيا حياة كريمة تنتقل فيها من مفهوم الرعية إلى مفهوم المواطنة , بما تقتضيه شروط المواطنة .
ونحن في سبيل هذه الغاية النبيلة لا بد أن نعتمد لغة الحوار , ولا بد أن نتمتع بقدر كبير من الوعي والتسامح . وقد قال تعالى في كتابه العزيز :
( ادفع بالتي هي أحسن . فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ).
نديم الخطيب – سوريا
نشرت في جريدة الوطن السورية بتاريخ 1-12-2011
لا غبار على العرض التاريخي , ولا غبار على سطور الأسئلة , التي تحمل في طياتها الجواب عليها , والتمنيات للشعب الليبي بأن لايستجير بالنار من الرمضاء , ويوحي بأن الأستاذ نديم الخطيب يرى ان الشعب الليبي وقع في المطب , ويوحي بشيئ من الترحم على القذافي ..انه الرمضاء والثورة+التدخل هي النار , ويحذر بشكل مبطن من النار التي يمكن لها أن تنصب على سوريا , الا ان النظم العربية بأجمعها ليست الا النار , وكل بديل لها مهما كان هو الرمضاء , ومن الصعب القول لقد كان على الشعب الليبي تحمل رمضاء القذافي تحاشيا لنار الأطلسي , وهذا القول هو بمثابة تأييد لبقاء القذافي , لأنه الرمضاء فقط مقارنة مع النار , ومن لايجد سببا وجيها لذهاب القذافي , لايجد أي سبب لرحيل أي نظام عربي آخر , ولربما كان ذلك هو العبرة من قصة الرمضاء والنار ,
هناك وجهة نظر أخرى تقول .ان الحلف مع الشيطان من أجل ازالة القذافي هو أمر مقبول وجيد , لأن القذافي وبقية الزعماء العرب أسوء من أي شيطان , ثم تقول هذه النظرة , ان التدخل الأجنبي (النار) هو تعبير عن ارادة القذافي ,الذي لايستطيع عقليا فهم ذلك , وبقية الزعماء لايستطيعون فهم ذلك أيضا ..القذافي هو الذي أتى بحلف الأطلسي وليس ثوار ليبيا , لأن سياسة القذافي حققت لهذا التدخل كل المعطيات الضرورية , والتدخل سيحدث في أي دولة في العالم تقريبا عندوجود معطيات كافية .. لقد تدخل العالم الغربي في لبنان عن طريق ايفاد الجمهورية العربيةالسورية , التي أرسلت الجيش الى لبنان بايعاز من الغرب , وذلك بعد أن حقق اللبنانيون معطيات وضرورات التدخل , ثم خرج الجيش من لبنان بايعاز من الغرب بعد أن تحققت معطيات خروجه , ..كذلك كان الأمر في العراق عندما تدخلت سوريا الى جانب بوش الأب , وفي الأردن أيام الحرب الفلسطينية الأردنية (أيلول الأسود) ,ولا أود التكلم عن التدخل السوري في ليبيا , لأني غير متأكدة منه , وعن تدخل سوريا في اليمن لصالح علي عبدالله , لأني أيضا غير متأكدة منه , وعند العودة الى سورية يجب القول ان مسؤولية أي تدخل خارجي تقع على عاتق النظام أولا وأخيرا , والنظام هو الذي يأتي بالتدخل , وهو الذي يستطيع منعه , ولا أحد آخر