التزوير مزدوجا

الأزمة التي تمر بها سوريا، نبهتني لحالة جديدة ومُخزية لم تكن موجودة من قبل بهذه الحدة، وهي كم أن الكلام شاق، حين يتحول إلى ما يشبه المبارزة.
لا يمكنني أن ألوم الناس في ردود أفعالهم العصبية، فالجميع حزين، ومتوتر، وقلق ومتعب، وتغذية الأمل في النفوس المتعبة تتطلب جهوداً جبارة للمحافظة على خيط الأمل، بالوصول إلى حالة الأمان والاستقرار والحرية والديموقراطية…
لكن ما لا أستطيع تبريره واحتماله، بل يجعلني أخرج عن طوري كل مرة، هو تلك الأحاديث المبطنة بنيات سيئة، والتي يعتقد أصحابها أنهم غير مكشوفين للآخرين، ويجب إضافة كلمة أقوال على عبارة «إنما الأعمال بالنيات»، فالنيات المبطنة للأقوال أشد أذى من نيات الأفعال.
مثلاً، يدور حديث عن الفساد المستشري في قطاعات عدة في سوريا، ويعطي العديد من المتحدثين أمثلة عديدة وموثقة بالأسماء والتواريخ، الخ…
ينتفض أحد المتحدثين، وأحب أن أسميه المزوّر، ويقول بأن هناك فساداً في كل بلاد العالم، ويستشهد بأميركا، كما لو أن أميركا هي حكم القيمة على دول العالم بأسرها.
ينتقل الحديث إلى الغلاء الفاحش والمتعاظم الذي أصاب العديد من السلع، فينتفض المزوّر بأن هناك أزمة غلاء عالمية… وإذا كان الحديث عن المعتقلين وضرورة الإفراج عنهم، يهب المزوّر ليقول بأن كل بلاد العالم لديها معتقلون وسجناء! وإذا عرّجنا بحديثنا على ثلة من اللصوص والمتنفذين والذين يتربعون فوق القوانين ولا يجرؤ أحد على محاسبتهم، يهب المزوّر ليقول بأن هذه الظاهرة موجودة في كل بلاد العالم…
وحين نتحدث عن مراقبة الانترنيت وحجب بعض المواقع، وخاصة لصحف ومجلات، وعن مراقبة الاتصالات… الخ، يستشهد المزوّر بأن الاستخبارات الأميركية تراقب مكالمات الأميركيين، وكذلك العديد من الدول…
أي انتقاد لمظاهر الفساد في سوريا، ومظاهر القمع، ونقص الحريات، والخطوط الحمراء التي لا يمكن لكاتب تجاوزها، وأي تسليط للضوء على مناطق النخر في مجتمعنا بهدف الكشف عنها وإصلاحها… يُقابلان للتو وبشراسة، بثلة من المحاربين المُزوّرين للحقائق، الذين لا يريدون الإصلاح، بل يعملون بكل الطرق ليبقى الفساد مترسخاً، حفاظاً على مصالحهم. ما علاقة الفساد في سوريا بالفساد في أميركا؟ وحين أناقش وأشير لجوانب الفساد في سوريا وفي حياة المواطن السوري، فهل يكون الجواب بأن هناك فساداً في أميركا؟ وحين نقول يجب الإفراج عن المعتقلين الذين يتجاوز عددهم الخمسين ألفاً، فهل يكون الجواب بأن هناك معتقلين في كل دول العالم؟
أهكذا يواجه الإنسان المحب لوطنه والمخلص لقضاياه مشاكل هذا الوطن وآلام المواطن؟ أتكون مواجهة المرض، بعلاجه أم بالقو، بأن هناك أمراضاً في الدنيا…
وحين يأتي المواطن سواء أكان فقيراً أم مُعتقلاً، أم خائفاً من عقابيل ممارسته لحريته في الفكر والفعل والقول، فهل نقدم له حلاً من نوع «توجد حالات ممائلة لحالتك»، أم أننا نساعده ليقاوم ويتحرر من وطأة الظلم والقهر والخوف.
هؤلاء المنافقون الانتهازيون المواربون لا يريدون الخير لسوريا، ولا للسوريين، وهم مفضوحون بطريقة فاقعة، ونياتهم مكشوفة: إنهم لا يريدون الإصلاح، بل يقاومونه لأنه يهدد مصالحهم، مصالحهم القائمة أساساً على استغلال المواطن المسكين، وتهديده في لقمة عيشه… بل إنهم يسخرون ويحتقرون هؤلاء الشرفاء المطالبين بحقهم في الحرية وتكافؤ الفرص والعيش الكريم، ويسمونهم رعاعاً، وحثالة…
ترى ماذا يسمون أنفسهم وهم الذين اغتنوا خلال فترة قصيرة، وقفزوا بسرعة صاروخ من الفقر او الحالة المتوسطة إلى الثراء الفاحش… ان أدق تسمية لهم هي: ديدان العلق، العلق الذي يمص دماء المساكين بشراهة وهستريا حتى ينتفخ كمنطاد…
إن أول خطوة في طريق الإصلاح هي محاربة هذا المنطق المسموم والسافل في الحوار.
نحن معنيون بوطننا ومشاكله وخصوصية هذه المشاكل، ولا علاقة لنا بالأوضاع الداخلية لبلاد أخرى.
تجب محاربة المزوّرين والمواربين الذين للأسف قد يؤثرون في أشخاص بسطاء وسُذج، ويجرونهم للاعتقاد بأن لا أزمة حقيقية في سوريا، وبأن الفساد والرشى والمعتقلين، أمور طبيعية وعادية، وتتشارك فيها دول كثيرة…
يحضرني الآن كتاب لاهوتي قرأته عن الشيطان، يومها تعجبت ان علم اللاهوت وصف الشيطان بصفة واحدة فقط وهي كذاب، وحين سألتُ رجال الدين، لماذا صفة كذاب وحدها تُلصق بالشيطان، قالوا لي، بأن من الكذب تتفرع كل أنواع الشرور.

هيفاء بيطار
< المقال السابق رجوع  

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *