لاتوجد فروق كبيرة بين مختلف البلدان العربية من حيث المسبب لثورات وانتفاضات هذا العام , الا أن المجتمع المصري والتونسي يتميز بأكثر من سيادة الفرد, وهذا الأمر يفسر تمكن المتظاهر من قلب الرئيسين المصري والتونسي بطريقة ميسرة , ولم يؤد ذلك الى انهيار تام لمؤسسات الدولة , ومن أهمها الجيش , الذي أكد بحياده شرعية وجوده ..انه الجيش المصري وانه الجيش التونسي , وليس جيش مبارك وجيش بن علي .
اما الوضع السوري والوضع اليمني فيختلف عن اوضاع مصر وتونس , هناك في سوريا الحالة الطائفية وفي اليمن الحالة القبلية , وهذه الحالات تعرض البلدان المذكورة الى مهالك حروب أهلية , بدأت بالتبلور وفرض واقعها على تطور الأحداث في كلا الدولتين ….
المقصد هنا هو الحديث عن الطائفة المسيحية في سوريا ,والتي لم تكن يوما ما متحزبة سياسيا , ولم تكن حزبا سياسيا كما هو الحال في لبنان أو حال الاخوان المسلمين في البلاد السورية , فأفراد الطائفة المسيحية كانوا موزعين بشكل عشوائي على مختلف الاتجاهات السياسية السورية ..من ناصري ..الى بعثي أو سوري قومي أو شيوعي ..الخ . وهذا الموقف أكسب الطائفة المترفعة جماعيا عن الممارسة السياسية الكثير من الاحترام من قبل كل التيارات السياسية , وحتى من باقي الطوائف .
الآن يسير الأمر بشكل آخر للأسف .فالأزمة الحالية , التي تمثل تأجج أزمة مزمنة تتمثل بعد تقبل الشعب احتضان سلطة فئوية , قادت السلطة الى البحث عن مراكز للاحتماء , ومن هذه المراكز الطائفة المسيبحية , وذلك حسب المعادلة التي تقول :أقلية +أقلية +أقلية ..= أكثرية , أي أنه على الطائفة المسيحية أن تدخل حلبة الصراع السياسي كطائفة متماسكة متضامنة , وليس كأفراد مبعثرين هنا وهناك , ويقال ان الضرورة لهذا التحول من البعثرة الى التكاتف الطائفي , هو الخطر المحدق بالطائفة من خلال تطور معين , يتجلى بتسلم الاخوان السلطة كليا أو جزئيا .
الغريب في الأمر هو ازدواجية مسلكية السلطة وادراكها للوضع , تارة تؤكد السلطة هامشية الاخوان شعبويا , وتارة أخرى تخوف الآخر من امكانية تسلمهم السلطة ومن عواقب ذلك بالنسبة للطائفة المسيحية , ولا أعرف كيف سيتمكن الهامشي شعبيا (اخوان) من تسلم السلطة بعد انتخابات حرة , ولا أعرف كيف سيتمكن هذا الهامشي (اخوان) من تسلم السلطة انقلابيا عن طريق الجيش , الذي لايعرف أكثرية اخوانية سنية , والماضي الذي يمكن التنور به لايبرهن على وجود خطر دفع الجزية من قبل المسيحي , ولا يبرهن عن امكانية القسر المسلكي كالتحجيب وغير ذلك , وما نراه الآن من فورة مذهبية سنية , ليبس الا ارتكاسا بمعظمه على مذهبية أخرى , ولا اختلاف بين المذهبيات الدينية الطائفية في مقدرتهم على هدم الأوطان .
تجنيد الطائفة المسيحية في حرب الطوائف الحالية هو أمر وحشي , ولا يجلب الا الضرر للطائفة والضرر الأكبر للطوائف الأخرى المتحاربة , والتي تستنزف في حروبها الأنانية كل مقدرات الوطن النفسية والمادية والحياتية بشكل عام , وبعض رجال الدين المسيحي يتطاولون بشكل أحمق في تصريحاتهم السياسية على شرعيتهم , التي تنحصر في ممارستهم للواجبات الدينية فقط , وكل تدخل في أمور السياسة ان كان مؤيد للنظام أو معارض له يمثل عمليا الاستقالة من الوظيفة التي اناطتها الكنيسة بهذا الكاهن أو ذاك , ولا يمثل هذا الكاهن الانسان المسيحي السوري سياسيا , لأنه لاوجود سياسي للطائفة المسيحية , والفرد المسيحي لم ينتخب الخوري والمطران , وانما فرضوا عليه فوقيا ودينيا , ولا يعني عدم اعتراض أحد على الفوقية الدينية , على أنها موافقة على تمادي رجال الدين بتدخلهم في المجالات الدنيوية ..وكل تدخل بهذه المجالات سيقود الى النقمة عليهم , والى تطورات لاتحمد عقباها بالنسبة لهم , كما أنها ستقود الى الحاق بالغ الأضرار بالطائفة , وقد أعرب أحد المطارنة في حديث شخصي مطول معه عن قلقه من ظاهرة التدخل بالسياسة , وأكد على وجود نوع من الاجبار على الادلاء بتصريح معين , وعادة يجري تحوير هذا التصريح بالشكل الذي يريده ممارس القسر ..ان كان سلطة مسلحة أو معارضة مسلحة , والهدف هو استجرار الطائفة للدخول في أتون النزاع الطائفي , الذي سيدمر الطائفة كما دمرها في العراق , وكما سيدمر الطوائف التي وضعت نفسها في خدمة اتجاهات سياسية مهما كان لونها ووجهتها ,فالقصد من التجنيد الطائفي ليس خمة الوطن , وانما خدمة اتجاه سياسي , وهذه الخدمة ستعود بالضرر البالغ على الوطن بشكل عام وعلى الخدم بشكل خاص . ولا يمكن هنا لاتجاه وطني الا ألأن يحذر من توسع رقعة النزاع الطائفي البدائي ..انظروا الى الأكراد الذين ترفعوا عن الطائفية وكونوا منظومات سياسية , فمنهم الشيعي ومنهم المسيحي الآشوري ومنهم السني ..الا أنهم قوميا أكراد , وبالرغم من بعض العنصرية في التفكير القومي , يبقى هذا التفكير أصح بألف مرة من التفكير الطائفي الديني والتفكير العشائري , وأصح بمليون مرة من التفكير العائلي , الذي يمثل حضيض كل تفكير ذو علاقة ببناء دولة .