لم يفت أوان الخيار الثالث في سوريا. خيار يمنع الخارج الاستعماري والذيلي من جر الشام إلى حرب أهلية، ويسمح بآليات تغيير تزيد أهل سوريا منعة. المعارضون الوطنيون مدعوون للابتعاد عمن يريد استخدامهم لضرب بلادهم. اما النظام، فعلى عاتقه تقع مسؤولية تحصين سوريا، لا الدفاع عن بقائه وحسب ابراهيم الأمين هل تجوز العودة الى ارشيف الأشهر الستة الاخيرة؟ طبعاً تجوز. بل إن الأمر ضروري، لا للمقارنة بين المواقف الخاصة بكل طرف، بل للإشارة الواضحة إلى أن ثمة ثلاث فئات تحكّمت بالمشهد السياسي والإعلامي السوري: ــــ فئة حاقدة على كل سوريا، شعباً وحكومة ومؤسسات، تواظب منذ اليوم الاول لاندلاع الاحتجاجات على الحديث عن «الثورة اللامتناهية» و«الربيع الموعود» و«الاحتضار السريع للنظام»، وعن «السلمية» و«وهم السلاح»، وعن الوحدة الوطنية و«أوهام» التفرقة والخروقات الطائفية وخلافه. هذه الفئة ستظل تكتب، الى يوم الدين، أن سوريا مريضة حتى تندمل هي تحت التراب لا حتى تندمل جراحها. أبطالها أهل التدخل الخارجي، لا يهتمون لأي حوار يمكن ان يقوم، لأنهم ضد محاورة احد لأحد. هم يريدون الفوضى والدماء والرصاص والنار، ولا يأبهون لأي أمر قد ينتج مما يجري من مواجهات. وجلّ هؤلاء عملاء صغار، يتقاضون مرتبات شهرية ومعونات دورية من وكالات استخبارات في أوروبا وأميركا، او يعملون غلماناً للنكاح الفكري عند بعض شيوخ ممالك النفط والموت الأسود. هؤلاء، لا يعترفون بأي معارضة لا تحظى برعاية فرنسا، او تنال رضى سيد البيت الابيض، أو بركة آل سعود. هم فئة لا تقرّ بشرعية معارض ما لم يعلن أنه مستعد لتدمير سوريا في سبيل اسقاط النظام. ــــ ثمة فئة ثانية، كانت تجد في المشهد لوحة سوداء. لم ترد الاعتراف بمشكلة في واقع النظام السوري. فئة لا تقرّ بمعارضة حقيقية للحكم، بل رأت أن الاحتجاجات وليدة مؤامرة دُبّرت في ليل الانتفاضتين المصرية والتونسية. فئة تجد في فقراء درعا وإدلب وريف حماه، او مناضلي حارات الشام وحمص واللاذقية والرقة ودير الزور، مجرد صبيان مضلّلين لا يعرفون مصلحة بلدهم، ولا يحق لهم القيام بما يفعلون. ليس لهم الحق في الاعتراض على بقاء رئاسة الجمهورية في يد افراد عائلة واحدة منذ اربعين عاماً، ولا يحق لهم السؤال عن فساد مستشر في كل دائرة رسمية وخاصة، ولا يحق لهم الاعتراض على سلوك رجال أمن يعيشون على اذلال الناس وابتزازهم، ولا يحق لهم الاعتراض على قمع لا متناه لكل من يريد قول لا، أو رفض مشروع في الدولة. هذه الفئة تقول إن النظام يريد الاصلاح ويجب الوقوف الى جانبه، لكنها ترفض مناقشة النظام في آلية الاصلاح، او طبيعة المشاركة فيها، او برنامجها الزمني. هذه الفئة، لا تعارض ــــ عملياً ــــ القمع الذي تعرض له محتجّون ومواطنون، وهي لا تميز بين هؤلاء وبين أفراد عصابات يعملون بالاجرة عند جهات خارجية في سياق تهديم النظام ومؤسساته. ــــ لكن ثمة فئة ثالثة كانت، ولا تزال، ترى الفرق بين الامرين. بين مشروعية نضالية توجب على النظام الدخول في مرحلة التحول الى نظام تعددي، تتقدم فيه وسائط القانون على وسائط الفساد في ادارة شؤون الناس، وتقام فيه المحاكم للذين عاثوا فساداً على مدى عقود، وتفتح فيه النوافذ والابواب لإزالة روائح القمع والكبت الكريهة، وتقفل فيه سجون الرأي والعقاب السياسي، وتنظم فيه الادارة بطريقة تتيح توسيع مشاركة الناس في بناء الدولة والمجتمع، وتضيق فيه هوامش الزعبرة والسرقة واستخدام النفوذ لمراكمة الثروات غير المشروعة. هذه مشروعية نضالية لا يمكن أحداً منحها او حجبها عن أصحابها. الناس في الشارع يعرفون المناضلين الحقيقيين، ويعرفون النصّاب والوصولي والعميل للخارج، كما يعرفون المخلص من ابناء الدولة الذي يريد اصلاحاً حقيقياً، ويعرفون المخبر الذي يقف خلفه أو الى جانبه يتلوى كالحرباء. هذه الفئة قالت، من اليوم الاول، إن سوريا لا تشبه أي بلد عربي آخر، وإن بشّار الاسد لا يشبه حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي، ولا ملك البحرين وملك آل سعود، ولا أميرَي قطر والكويت ولا أبناء زايد. هذه الفئة قالت إن لسوريا خصوصية، لا ترتبط فقط بواقعها الداخلي وتنوعها الطائفي والعرقي والسياسي، بل لأنها تمثّل منذ عقود نقطة الوصل في ملف الصراع مع اسرائيل، ومنذ عقد نقطة الوصل في ملف الصراع مع الاستعمار الغربي الجديد لبلادنا. وهي تمثل، منذ ما بعد حرب تموز العام 2006، نقطة الحسم في الصراع المفتوح مع اسرائيل والمتقدم نحو مرحلة بالغة الحساسية، شاء حلفاء اسرائيل او أبوا. وهي تمثّل اليوم، تحديداً، مركز الثقل في التحوّل المرتقب إثر تعثّر المشروع الاميركي في المنطقة، واضطرار الولايات المتحدة إلى سحب جيشها من العراق، وإعادة تنظيم وجودها العسكري في كل الخليج العربي بطريقة مختلفة، والى اعداد العدّة للفرار الآمن من افغانستان ايضا. وهي اللحظة التي يعرف الحكّام من حلفاء أميركا في المنطقة أن عليهم، هذه المرة، دفع الثمن للشعوب لا للمستعمر الاميركي فقط، وهي اللحظة التي تدرك فيها اسرائيل، أكثر من غيرها، ماذا يعني تماسك محور قوي يمتد من ايران الى العراق فسوريا ولبنان من ثم الى فلسطين. هذه الفئة، دعت منذ اليوم الاول، النظام ومعارضيه، الى عدم المكابرة، والتنبّه من ان المواجهة المفتوحة في الشارع تعني الذهاب نحو حرب اهلية. كتبت هذه العبارات مرات عديدة، لكن خصوم النظام يريدون الآن تداولها لأنها باتت تحذيراً من الغرب الذي يريد الحرب الاهلية بديلاً عن الحرب الخارجية على النظام في الشام. هذه الفئة دعت الى ابتداع آلية لمصالحة تاريخية تتيح لمعارضين شرفاء، ومعهم جمهور كبير منتشر على كل الاراضي السورية، اعلان بدء حصاد الاحتجاج، على شكل تغييرات في بنية الدولة، تقود الى انتخابات حرة تفتح الباب أمام تغيير حقيقي قوي، لا يستطيع أمن أو فساد وقفه. وهي المصالحة التي تتيح للنظام أن يساعد نفسه بنفسه على التخلص من الجانب الصعب من الإرث الذي رمي به على أكتافه، وتساعده على اعادة انتاج موقعه بطريقة تتيح له الاحتفاظ بعناصر القوة التي بنتها سوريا لنفسها خلال العقود الاخيرة، لكنها تفتح الباب امام مرحلة جديدة من النمو، السياسي والاقتصادي والثقافي، وتتيح بناء قاعدة حقيقية للموقف الداخلي الداعم لوطنية سورية لا تهزها تهديدات أميركا ولا حروب اسرائيل. اليوم، ثمة فشل كبير أصاب قوى الغرب والعرب المعادية للنظام في سوريا. وهو الفشل المرتبط بإجبار معارضين سوريين على السير في حقل ألغام تفجّر بهم وشرذمهم وقطّعهم وحال دون أن يتحوّلوا الى معارضة وطنية. لقد وقع المعارضون في فخ الغرب، فما عادوا قادرين على اعلان موقف رافض للتبعية للخارج، وصارت مؤتمراتهم وتحركاتهم وبياناتهم تصدر بتمويل من الخارج الذي يريد استعمارهم بالقوة. وهؤلاء المعارضون، الذين يوجد بينهم حاقدون، لا يجيدون المراجعة، ولا النقد الذاتي لدورهم في ثمانينيات القرن الماضي، وهم يعتقدون بأن ساعة الانتقام قد دنت. ولا يرون أمامهم سوى الدماء معبراً للوصول الى مبتغاهم في سلطة اقصائية تقوم على سحل الآخر. اليوم، ثمة محاولة اخيرة من الخارج لانتزاع قلب سوريا، من خلال حرب اهلية متنقلة، عنوانها التوتير الطائفي والمذهبي والسياسي واتهام النظام بالسعي الى ذلك، وأدواتها التحريض على منع التواصل ومنع الحوار ومنع المصالحة الوطنية، ووسائلها عمليات القتل المتواصلة، وبكل الاساليب، بغية إنهاك سوريا وجعلها في لحظة معينة، ضحية سهلة الافتراس لأي خارج يريد الانقضاض. هذه المحاولة تقودها مجموعة حكومات ودول وجماعات لا ترى امامها اي هدف آخر سوى التخلص من النظام، وهي لن تتوانى عن القيام بأي شيء، من تحطيم الدولة وتجويع الناس، الى تفجير البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، الى السعي لقتل رجالات النظام وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية كيفما كان، وإلى تبنّي روح الشيطان وأدواته من اجل تحقيق هذا الهدف. في المقابل، لم يعد امام النظام سوى بناء الاسوار من حول بلده، وليس من حوله. في هذه اللحظة القاسية والمعقدة، تُنتظر منه مبادرة تاريخية تتيح دعوة الناس الطيبين الى الخروج من الشارع، من اجل تعقيد مهمة الخارج اللئيم، ومحاصرة عملائه في الداخل والخارج معاً… واذا كان العالم قد بات يدرك حجم المؤامرة على سوريا، فإن ذلك لا يمنع رؤية الجانب الحقيقي من المشكلة الداخلية، وعلى النظام التفكير من دون توقف في الطريقة الانسب لإطلاق هذه المبادرة، ولن يفوت الأوان!
ابراهيم الأمين.
موضوع المصالحة التاريخية معقد , وذلك للأسباب التالية :
عندما يحترم الانسان الوطن , يحترم مواطنيه , واحترام المواطن يستلزم أولا الاعتراف بحقه في كينونة فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية متباينة , وهذا يفرض الابتعاد تماما عن التكفير والتخوين , واذا حدث هذا الاحترام واقتصر على الاختلاف دون الخلاف , فلا لزوم لما يسمى مصالحة , لأنه في هذه الحالة لاتوجد عداوة .
أما اذا لم يحترم الانسان الوطن , فلا يستطيع أن يحترم المواطن ولا يستطيع احترام التعددية الطبيعية بين المخلوقات البشرية ..يكفر ويخون ويصف الآخر بالعميل , هنا تكون المصالحة نظريا ضرورية , الا أنها عمليا غير قابلة للتحقيق والتنفيذ النهائي , لأن الاستمرار بالتخوين يفرخ من جديد عداء يتطلب المصالحة, وهكذا يدوم التفريخ وتدوم الحاجة الى المصالحة الى اللانهاية , ومن هنا نرى على أن المصالحة اما غير ضرورية أو انها غير قابلة للتحقيق النهائي , لذا يجب حذفها من قاموس التعامل السياسي , واستبدالها بقيم أخرى مثل الاعتراف بالمساواة مع الآخر حقوقا وواجباتا ,ولا يمكن لنظام ان يؤكد المساواة الا النظام الديموقراطي , وعندما لانزال نبحر حتى الآن في بحر الظلمات الديكتاتوري فبعدنا عن الديموقراطية يقدر بحوالي عشرين سنة ضوئية .
تقسيمات الأستاذ ابراهيم الأمين في معظمها صحيح, الا أن هناك مفارقات , توصيف الفئة الأولى بالشكل الذي قام به ابراهيم الأمين يجعل منها فئة يجب الغائها أو وضعها في السجن فالمصالحة هنا عبث بسبب التخوين ..حذار حذار من الغاء الآخر ..حذار حذار من وسيلة السجن .
المفارقة الثانية لها علاقة بالفئة الثانية , اذا صدق توصيف الأستاذ الأمين لهذه الفئة بالشكل قام به ,فان هذه الفئة غير صالحة لممارسة التداول السياسي الديموقراطي والقيام بالاصلاح , لذا عليها ان تترك زمام الأمور لغيرها, أي للفئة الثالثة , التي يمكنها أن تلقى الكثير من التقبل من فئة رابعة لم يأت الأستاذ على ذكرها وهي الفئة الرابعة الصامتة الخائفة من الفئة الأولى ومن الفئة الثانية .
اذا ارادت الفئة الثانية المسيطرة الآن انقاذ نفسها وانقاذ البلاد , فما عليها الا أن تشجع الفئة الثالثة والرابعة وتدعمها , ووجود الفئة الثالثة والرابعة على رأس السلطة يلغي كامل مآخذ الفئة الأولى , التي تصاب عندها بالضمور والتلاشي .
من هنا يمكن القول ان مفتاح الحل هو بيد الفئة الثانية أولا , وعدم ايجاد حل هو مسؤولية الفئة الثانية أولا , وعدم ايجاد خل يعني نهاية الوطن ثانيا وأخيرا