تاريخ التهميش المسيحي في سوريا: قراءة واقعية

المسيحيون في سوريا: ضحايا النظام والتطرف في آنٍ معاً…. – syriano        شكّل المسيحيون في سوريا عبر التاريخ جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني، وأسهموا في بناء الدولة الحديثة من خلال التعليم، والصحافة، والتجارة، والعمل السياسي.
لكن هذه الريادة لم تصمد أمام التحولات السياسية الحادة التي بدأت منتصف القرن العشرين، خاصة مع الوحدة بين سوريا ومصر، ثم حكم البعث، وصولًا إلى الحرب السورية التي دفعت مئات الآلاف منهم إلى الهجرة.
هذا المقال يرصد أبرز المحطات التي أثّرت على وجودهم ودورهم، بمنهج واقعي بعيدًا عن التعميمات الطائفية.
– التعددية السورية قبل 1958: حضور مدني وثقافي فاعل
قبل عام 1958، كان المسيحيون السوريون يتمتعون بهوامش واسعة من الحرية، وشاركوا بفعالية في الحياة العامة.
برزوا في تأسيس الأحزاب السياسية، مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي، وفي الصحافة والتعليم، وكان لهم دور ريادي في النهضة الفكرية والثقافية.
كانت سوريا حينها دولة تعددية نسبيًا، تسمح بالتنوع الديني والثقافي، وتحتضن الإبداع والاختلاف في إطار وطني جامع.
– الوحدة الناصرية: بداية التهميش السياسي والثقافي
مع إعلان الوحدة بين سوريا ومصر، سادت المركزية الناصرية الصارمة، ما أدى إلى:
– تأميم المدارس المسيحية الخاصة.
– تهميش الصحافة الحرة التي كان للمسيحيين فيها حضور بارز.
– تراجع التمثيل السياسي والعسكري للمسيحيين السوريين.
– تصاعد الخطاب القومي العربي على حساب الهويات الثقافية والدينية الأخرى.
كانت هذه المرحلة بداية الانتقال من الدولة التعددية إلى الدولة القومية المغلقة، وهو ما سيكتمل لاحقًا في عهد البعث.
وقد دفعت تلك السياسات كثيرًا من المسيحيين إلى الهجرة، خصوصًا من الطبقة الوسطى والعليا، لتبدأ مرحلة جديدة من الغياب التدريجي عن المجال العام.
– البعث السوري: احتواء شكلي وتراجع مدني
تبنّى حزب البعث خطابًا علمانيًا قوميًا، لكنه فرض نظامًا شموليًا أضعف المجتمع المدني بأسره:
– تم احتواء المسيحيين داخل مؤسسات الدولة دون تمثيل حقيقي.
– أُغلقت الصحف المستقلة، وتراجعت الحريات الفكرية.
– غابت الأحزاب ذات الطابع المدني أو الثقافي المستقل.
ورغم حرص النظام على إبراز بعض الوجوه المسيحية في المناصب الرسمية، إلا أن ذلك اقتصر على الدور الرمزي أكثر من الفاعل، في إطار سياسة التعددية الشكلية التي تخدم صورة النظام أكثر من تمكين المكوّنات المجتمعية.
لم يُستهدف المسيحيون طائفيًا، لكن غياب الحريات وتضييق المجال العام دفع كثيرين إلى الهجرة أو الانكفاء، فتراجع حضورهم في السياسة والثقافة والتعليم.
– الحرب السورية: النزوح المسيحي وتقلص الحضور
كانت الحرب السورية كارثية على المسيحيين، كما على سائر مكونات المجتمع:
– تعرّضت مناطق مسيحية مثل حمص القديمة ومعلولا لدمار واسع، بينما بقيت مناطق أخرى مثل السقيلبية أكثر استقرارًا نسبيًا رغم التوترات.
– هاجر مئات الآلاف من المسيحيين السوريين إلى أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا.
– تقلّص الوزن التاريخي للمجتمع المسيحي بشكل غير مسبوق.
الكنائس بقيت قائمة في أغلب المناطق الخاضعة للنظام، لكنها فقدت جمهورها الواسع، وتحوّل دورها إلى إنساني وإغاثي أكثر من اجتماعي.
ورغم بقاء الرموز والمؤسسات، فإن الوجود المسيحي في سوريا بات مهددًا ديموغرافيًا وثقافيًا، وسط غياب أي مشروع وطني جامع.
– خاتمة: مأساة وطنية لا طائفية
المسيحيون في سوريا لم يُبادوا، لكنهم تعرّضوا لتهميش ممنهج منذ الوحدة، ثم لاحتواء سياسي في عهد البعث، وأخيرًا لتدمير مجتمعي بعد الحرب.
مأساتهم هي في جوهرها مأساة وطنية، تعكس انهيار الدولة المدنية لا مجرد اضطهاد طائفي.
الحفاظ على ما تبقّى من هذا المكوّن الأصيل يتطلب مشروعًا وطنيًا جديدًا يقوم على العدالة والمواطنة، ويعيد الاعتبار للتعددية، ويضمن الحقوق بعيدًا عن الشعارات الفارغة.
فقط ضمن دولة مدنية عادلة، تُبنى على المواطنة لا الولاءات، يمكن للمسيحيين — كما لسائر السوريين — استعادة دورهم الطبيعي في بناء مستقبل وطني جامع.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *