الاختلاف والتباين كان ولا يزال من طبيعة البشر ,اضافة الى كونه ضروري للابداع ,لا يمكن اكتشاف الاختلاف والتباين الا عن طريق ضمان حرية الرأي , اي السماح بالصراحة , التي تسمح عندئذ بالتعرف الصحيح والخاطئ نسبيا من الآراء ,وبالتالي تسمح بتقويم اعوجاج بعضها .
هناك معيقات لممارسة حرية الرأي , منها الطهارة الفكرية , ومنها الطهارة الطائفية , الطهارة ألغت الطائفية شكليا , عن طريق منع التطرق لها تحت طائلة العقاب, عمليا تم التستر عليها , وتحت الستار نمت وترعرعت واحتقنت الى أن انفجرت , وفجرت الوطن معها ,الغاء تداول قضية الطائفية , لايعني اجتثاث الطائفية انما حماية الطائفية من النقد , وهكذا انتقلت الشعوب من خدعة الطهارة الطائفية الى واقع التطهير الطائفي ,أما الطهارة الفكرية , التي تم فرضها في سياق مكافحة حرية الرأي , فقد كانت قاتلة بشكل آخر ,معظم أسباب الفرض ارتكزت على مفهوم التوحيد, أي الرأي الواحد والموقف الواحد والأعتقاد الواحد والله الواحد والأهم الديكتاتور الواحد , الذي يجب حمايته من الاعتلال بمرض الحرية , فديكتاتور المستنقع الآسن يموت في الماء النقي الصافي .
التوحيد عدو لطبيعة البشر , وصديق حميم لمشوهات هذه الطبيعة , عمليا تمكن التوحيد وديكتاتورياته من البقاء على قيد الحياة لفترات طويلة جدا ,الخلافة وألف سنة عربية بدوية ثم أربعة قرون عثمانية , وبعد ذلك الديكتاتوريات وتمكنها من الغاء الزمن, لقد وضع العثمانيون المخلوق البشري وفكره في الكهف لمدة أربعة قرون , ثم جاء الاستعمار الداخلي ليكمل تكهيف الانسان وعقله وفكره , ولما استيقظ هذا الانسان بفعل بدعة الحرية , التي صنعها التواصل الاجتماعي بشكل رئيسي , وجد نفسه أمام عالم آخر , لايمكنه فهمه ولايمكن للعالم فهم هذا المستيقظ حديثا, المستيقظ تحول الى غريب في هذه الدنيا , ومن أهم معالم غربته كانت غرابة أفكاره , وهكذ كان على التواصل الاجتماعي الصابر احتضان الغث بكثرته والثمين بندرته , وأن يشجع على التلاقح بينهما ..لعل وعسى !
لاتستطيع الشعوب العيش عند غياب أو تغييب الحرية بدون بديل , وبدائل الحرية عديدة , منها ماهو من جنسها ومنها ماهو من عكسها ونقيضها ,قد تكون الطاعة هي البديل , الطاعة كبديل عن الحرية …كيف ؟؟؟ , هنا تتمركز وتتكثف الحرية بالسلطان ألذي احتكرها , السلطان حر بقراراته , انه يقرر والرعية تطيع برغبة وبشغف واندفاع ايماني , ان أصاب السلطان بفضل مواهبه العديدة الفذة , فله الحمد والشكر والتمجيد , وان أخفق يقال على أنها ارادة الله او ارادة المؤامرة الدنيئة , وللسلطان تبعا لذلك الشكر والحمد والتمجيد أيضا , حقيقة يمكن القول بأن سلطان البلاد هو أفضل من مثل شعوب هذه البلاد , ففي عقل وقلب كل فرد من هذه الشعوب يسكن سلطانا شبيها بالسلطان الذي يتسلطن على الناس , بل هو نسخة طبق الأصل عنه.
الطاعة هي طريقة الحياة التي تمارسها هذه الشعوب بمهنية عالية , والحرية هي الطارئ الاستثنائي , الذي تتعب ممارسته الشعوب ولا تعرف حقيقة كيف تمارسه , الطاعة هي طريقة الحياة في الأسرة وفي الحارة , انها الأصالة التي تتمثل بأعظم صورها في ممارسة أعظم الطاعة للسلطان ,الطاعة للنص الذي يتبادل التخديم مع السلطان , تجذر النص في النفوس حول الفرد الى طاغية تستبد بنفسها وتستعمر نفسها , وحول المستعمرة الذاتية بنيت الحصون , التي وقفت في وجه الانفتاح والحداثة والتلوث ,فالتلوث بالغير مرفوض , لأن التلوث يعني امكانية تسرب ما قام به الكفرة الى دواخل الناس , الحداثة بدعة شيطانية وعدو الشعوب الأول , لاينفرد السلطان في اعتبارها عدوا أو رديفا للعدو , وانما العديد من المخلوقات البشرية في هذه البلاد تعتبرها رديفا للعدو , الذي يريد تفريق الناس وابعادهم عن دينهم الحنيف , وعن النص الحبيب , الذي تستعمر به نفسها , المطلب الشعبوي هو ممارسة الحق في الطاعة وليس الحق في الاعتراض والتمرد ..كل ذلك بوتيرة عالية تعادل وتيرة الدفاع عن الحق في الحياة والحق في رفض الموت عند الشعوب الأخرى .
الحرية خلق وابتكار متعب , والطاعة تسليم وامتثال , ومنذ قرون والشعوب تستريح في مستنقع الركود والتجمد وممارسة الطاعة لله ومرسليه , ومن ناب عنهم ,نتائج كل ذلك كانت سيئة وكارثية , والسوء نلمسه و نراه بالعين المجردة , لابد من الحرية ومن متاعب الخلق والابتكار , لا أقصد الحرية التي ينعم السلطان على الشعوب بها , والتي يحددها مزاجه كما وكيفا , انما القصد هو التحرر من الذات المستبد المستعمر لنفسه بأداة النص والطاعة , النص ملزم بالطاعة بدون سؤال أو جواب , النص ملزم ايضا بالجهاد , جهاد مستمر بشكل ما على مدى الدهر , والجهاد في أحد أشكاله النظرية هو تحارب , والتحارب هو الشكل الوحيد الذي بقي من منظومة الجهاد, التحارب يقود اما لانتصار المجاهد على العدو المشرك والذي يعني قتله , وبالتالي يقول النص المطاع والموثوق به لهذ المجاهد قاتل المشرك لك الجنة ومافيها , اما أن يتمكن المشرك من قتل المجاهد وبالتالي يحوله الى شهيد , والشهادة في سبيل الله هي بمثابة فتح لباب الجنة على مصراعيه , بالمحصلة الجنة هي الملاذ الأخير للمجاهد قاتلا أو مقتولا, لابد للمجاهد سوى أن يجاهد وعليه أن يقتل أو يستشهد.
اذن على أي خصومة أن تنتهي اما قاتل أو مقتول لضمان الجنة , النص والطاعة لايسمحون بأي بديل لثنائية القاتل والمقتول , فعلا يصطدم انسان هذا العصر مع مواقف ومفاهيم من المستحيل فهمها ومن الصعب جدا التعامل معها , وليس من المؤكد أن يتمكن التلاقح معها من انجاب نسل جديد لايمت الى نسل المستحاثات ونيام أهل الكهف بصلة , بالرغم من ذلك لابديل عن التلاقح والتفاعل على صعوبته , ولا مناص من محاولة الاجابة على أسئلة الحياة , ولا أمل أن يوحي لنا جبريل بالأجوبة , وكل استنكاف عن ملاقحة عقول أهل الهف , سيقود الى عودتهم الى النوم , عندها سيكون نومهم ابدي , وسيجرجرونا معهم الى نوم ابدي أيضا .