المواطنة والتفرقة الوطنية , حب الوطن وحب المواطن !

جورج  بنا, مفيد  بيطار    :

كاريكاتير: المواطن العربي التعيس – Syria Today | سوريا اليوم  *     تاريخيا يمكن القول  على  أن مفهوم الوطنية  أوروبي المنشأ  ,  فقد   ولد  هذا التعبير في أواخر القرن الثامن عشر    مرادفا  لنشوء الفكر  القومي , لذا يتم أحيانا المزج  بين  الوطنية والقومية  ,وكأنهما  قيمة واحدة , فرضت   الوطنية  نفسها   في  العالم  العربي   في  المئة  سنة  الأخيرة العالم   كاطار   لتلاحم  الفرد مع  مكون  جغرافي  وشعبي واجتماعي  , اسمه الوطن  ,أي  أن نشوء مايسمى الدولة القومية أو الوطن  ,  الذي تقوم   الوطنية   بصيانتة وحمايتة .

      على الرغم من  أن منشأ  قيمة “الوطنية” ليس عربي  , الا أن التداول   اللفظي   لهذه القيمة على أشده في البلاد العربية  ,  الأمرمشابه للديموقراطية ,  التي  برع    العرب  في   التحدث  عنها  وعن  ضروراتها   ,من  ناحية   أخرى برعوا    في  تجنب  تطبيقها ومحاربتها   , ففي أوروبا  نادرا مايتكلم  أحد عن الوطنية  أو القومية  , ومن يتحدث عن الوطنية بالأسلوب العربي يجعل من نفسه مضحكة ,  ذلك لأن  الكلام عن  وطنية فلان مقرون  دائما  بالكلام  عن عدم وطنية الآخر , ففي   أوروبا  لاوجود  لمن  هو لا  وطني, حتى   لو  كان  معارضا    لمشاريع   وتصرفات الحكومة  ,المبالغة في   استخدام مفردة “الوطنية ”   ملازم للمبالغة   في استخدام مفردة “الخيانة”  ,   لاتعرف   المجتمعات  الأخرى   ذلك   الاستخدم  المكثف  لمفوم  الخيانة , أما في هذه   المنطقة  فتستعمل هذه الكلمة مئات  الألوف من المرات يوميا ,  من له رأي آخر  فهو خائن ,هكذا بكل بساطة وتلقائية , لقد شذ  المعنى المتداول  لهذه الكلمة عن المعنى الحقيقي , لقد أصبح , في سياق افلاس  القيم بشكل عام  ,عبارة عن  مفردة  لكيل المديح , والأصح أصبح   بوابة  تدخل منها مفردة أخرى هي مفردة “الخيانة” , التي  أفلست أيضا   ولم تعد تستعمل الا  للشتم  والقدح والذم .

         تختلف مضامين ومعايير الوطنية   من  دولة   لأخرى , وفي الدولة نفسها من فئة لأخرى, وعلى مستوى الوعي الفردي والجماعي يختلف معنى  هذه المفردة  أيضا  , والتباين   أو  الاختلاف    على أشده بين  الديموقراطيات والديكتاتوريات  , وبين المشيخات  والجمهوريات    , ففي المشيخة  مثلا  يتقزم هذا التعبير   ليأخذ شكلا فقهيا  , لايتجذر به مفهوم الوطنية  بشكله الحديث  المعروف أوروبيا   ,يهيمن   في   هذه   المنطقة  مفهوم   الأمة ذو   الخلفية   الدينية ,  بينما    مفهوم الوطن  ضامر  ومتقزم واقعيا  ,وذلك  بالرغم من  ان الجماعات المحمدية   تعيش في أوطان  محددة جغرافيا   وشعبيا  ومعترف بها عالميا , هؤلاء يشعرون بانتمائهم الى  “أمة”  أكثر من انتمائهم الى “وطن”  , ذلك   يستقيم   بشكل   عام  مع النظرة  الفقهية  القائلة   بأن   الوطن   وثن   .

    يتعلق مفهوم الوطنية في الغرب الديموقراطي  , أولا  بموضوع الأرض وما  عليها , اذ ان الهدف من الممارسة الوطنية هو  رخاء وازدهار وتقدم الجماعة ,  أما في الشرق المشخصن  الديكتاتوري  فقد كان من الضروري  تهجين  مفهوم “الوطنية ” لكي ينسجم  مع “الشخص”   السلطوي  وأهدافه ونزواته ,الذي  ألغي   ملكية الأرض  لمن عليها   , وأصبح هو المالك  للأرض وما  عليها أيضا  ,تتمحور  كل  مصلحة  حول ذاته وذواته  ونزواته , وبالتالي كان  لقيمة الوطنية أن” تتأدب  وتتدرب”   على  الوضع الجديد  وتتناسب مع   شخصنة   الدولة .  

        ينتشر التحوير  والتزييف   وبائيا  في هذه البلاد  , وأهم تحوير  كان   تحول  فاعلية  مفهوم الوطنية في الوعي  الفاعل للشعب  (البدائي) ,  ليغدو مفهوما فاعلا للتفرقة الوطنية وقاتلا للوحدة الوطنية بشكل غير مباشر  ,ذلك  لأن  تكاثر  استخدام هذه المفردة في تعريف  حالة  مواطن ما , مقرون  بتكاثر استخدام مفردة  “خائن” في  تعريف حالة مواطن آخر  , ومن هنا يأتي “محصول” التفرقة  الوطنية لهذا الاستعمال , وبقدر مايتحدث الانسان عن وطنيين , يجب أن يتحدث عن خونة  ,  هنا  تكمن   الكارثة  التي تقضي على الثقة بين  فئات المجتمع , وتقضي أيضا على  المساواة  وتكرس    الديكتاتورية  , بل هي ضرورة من ضروات الديكتاتورية , التي تعتمد على الاقصاء والاستقطاب  والفردية ,لا يمكن للديكتاتورية أن تبرر وجودها  منطقيا , الا عن طريق تأكيد خيانة فئة  ومواطنية فئة أخرى , والفئة “الوطنية” التي يمثلها الديكتاتور هي الفئة  التي  تحتكر الحكم  لأنها وطنية , أما الفئة الأخرى  فهي فئة الخيانة , التي  ينعم عليها الديكتاتور   في أحسن الحالات, بالسجن الملطف  والتعذيب المخفف , أي أنه يحاول تأديبها  وتدريبها  لكي تصبح “وطنية ” وتنضم الى قطيعه!.

       مع كل مشكلة تواجهها  الدولة  ومع كل فشل للسلطة في ادارة شؤون البلاد   يتكرر الحديث عن المؤامرة , التي تصنف الشعب الى صنفين  , الصنف الوطني والصنف الخائن  المتآمر , تصنيف يلغي امكانية  الحوار  وامكانية الكلام  بين الأصناف ,  هذا الالغاء   هو هدف أساسي لأي سلطة ديكتاتورية , فالسلطة الديكتاتورية لاتحب الكلام  وتبادل الأفكار , لأنه لافكر عندها , وما تملكه   تستخدمه  مثل   السوط  والساطور  , الذي ينهال على رقاب البشر  تحت أنغام الأهازيج  والأناشيد والشعارات  , التي تمجد القائد   وتتغنى بالوطن , ثم يأتي دور رجال المخابرات   لتوزيع شهادات الوطنية    على البشر , ومن هو  ليس وطني   حسب  تقييم المخابرات  يؤول الى الاعتقال  والتعذيب ,   حيث  تدور بعد ذلك مكنة التواسط  ودفع البراطيل لاطلاق سبيل المنكوب, كل ذلك  باسم وبرسم الوطنية  وباسم وبرسم رديفها , الذي هو الخيانة , كل ذلك  هو من مصلحة الديكتاتورية , التي  تفرق لتسد,تفرق طائفيا , وتفرق عرقيا  وانتماء ,   وتقسم البشر الى وطني وخائن .

      زيادة التشديد على “الوطنية” يتناسب طردا مع زيادة الحاجة الى الدجل عند  وقوع  الاشكاليات    , التي لاتقوى الديكتاتوريات على حلها ,وفي   حالة   القصور   يصل    انتاج الشعارات الى اعلاه  ,   والعمل بهذه الشعارات  يبلغ أدناه ,   يتكاثر منظروا الوطنية   وتتكاثر دروسهم  ومواعظهم بما يخص  ضرورة    الوطنية وضرورة   حب  الوطن ,   أما   عن  ضرورة  حب  الوطن للمواطن وحرصه   على    حقوق   المواطن في   الحرية  والمساواة فالكلام    هو   الصمت ,لماذا   على   مواطن  حب  وطن  عندما    لايحبة  هذا   الوطن !!!!.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *