ثقافة الموت….

رياض  خليل:

ثقافة الموت عمل شاقّ - CANADA VOICE      لن تقوم قائمة للشعوب العربية مالم تتخلى عن ثقافات الموت ، وتتمسك بثقافة الحياة .
ثقافة الموت هي التراكم المعرفي التاريخي لكل ماهو غير علمي وعملي في حياتنا الاجتماعية ، ورؤيتنا المريضة لها . ومن سمات تلك الثقافة : الجمود .. التعصب .. الانغلاق .. الكراهية .. الشك وعدم الثقة بالغير .. وصناعة الأوهام والمقدسات من أحط الأشياء وأشدها تفاهة وقذارة وضررا ، ومن بينها عبادة الفرد ، والانقياد الأعمى لبنية الاستبداد ، والدفاع عنها ، كوعاء مقدس للتناقضات الذاتية الداخلية القائمة على الكذب والغش والخداع والخوف ، وازدواجية المعايير في الأقوال والأفعال وسائر السلوكيات .
ثقافة الموت تعتمد على اللامنهجية واللاعلمية ، تعتمد على كراهية العقل والأخلاق ، تعتمد على محاربة الحرية ، وتعتبرها العدو الأخطر والأكبر تهديدا لبقائها وآليات حياتها المريضة ، التي تقوم على مبدأ ” الصراع والتناقضات والانقسامات والتفتت كلها أكسير الحياة الوحيد لبقائها ، وصمام الأمان لروحها الخائفة القلقة لدرجة الجنون ” . إنها ثقافة الجنون حقا .
ثقافة الموت تقوم على الجهل والتجهيل والنفاق لتثبيت نفسها ، وفرض سلطتها من قبل المستفيدين منها على سائر الناس ، ثم يصل بها الأمر إلى فقدان أي معايير وضوابط معقولة للعلاقات الاجتماعية الإنسانية ، لتدخل بعدها في حالة من الانتخار والتدمير الذاتي الشامل لكل مكوناتها ، وصولا لموتها الناجز ، وإخلاء المكان لآليات وقوى جديدة ، تكونت وتراكمت من عناصر الحالة السابقة .
إن ثقافة الموت لها عمر ، وهي بالتالي حالة آيلة للموت ، لأنها عاجزة عن مواجهة أسئلة لاتنتهي ، وعاجزة عن تلبية استحقاقات الحياة الاجتماعية : كالحرية والعدالة والكرامة والحق والمشاركة . هي بحد ذاتها مرض ، علاجه يعني موته
والمضادات الحيوية لثقافة الموت ، لايمكن تحاشيها ولا التهرب منها ، لأنها حاجة حيوية اجتماعية ومادية ، والمضادات الحيوية بالنسبة لثقافة الموت هي ( الداء والدواء معا ) وكلاهما يقضي عليها قضاء مبرما .
المضادات الحيوية المتراكمة والتي تتراكم رغما عن كل شيء ، تكمن في العجز عن وقف عجلة العلم والمعرفة الموضوعية ، التي تعتبر اساسا لاي تطور ، في أي ميدان . وبما أن العلم والمعرفة المنهجية ، غالبا ماتربي العقل على الاعتماد على المنطق الصوري والجدلي والعلمي ، فلابد من أن يؤثر هذا بنسب متفاوتة على إداء العقل الفردي والجماعي في مجالات النشاط الاجتماعي والسياسي ، ويلقي بتأثيره وثقله عليه ، لدرجة أنه يتحول إلى خطر ماثل على الحياة الراكدة المريضة للمجتمع ، الخاضع لاستبداد ثقافة الموت والقوى المدافعة عنها . هي إذن سيرورة لايمكن وقفها ولا الوقوف في وجهها إلى مالانهاية .. كما لايمكن هزيمتها استراتيجيا .
كانت الحقبة الأسدية السورية النموذج لمثل تلك الحالة ..من سيطرة الاستبداد وثقافة الموت التي تعتبر العنوان الكبير لها طوال عقود خاليات . وهاهي تعبر عن أزمة موتها بأفظع الصور دموية ومأساوية في التاريخ الحديث والمعاصر . فهي حالة تكاد تلتهم نفسها وكل ماحولها من حيوات بشرية اجتماعية كالسرطان . وهاهي تهدد بقوة حياة المحيط الإقليمية والدولي .
تربينا ثقافيا خلال الحقبة الأسدية على وجه الخصوص على كراهية الآخر ، وافتراض سوء النية لديه مسبقا ، وعلى الشك الهدام بكل شيء مختلف ومغاير لما هو قائم ومعتمد رسميا . تربينا على أننا وحدنا نملك الحقيقة والحق ، وأن من حقنا إعدام الآخر المختلف وإزالته من الخريطة . تربينا على التلفيق والكذب والنفاق ، وتقديس الطغيان ، على تشويه حقائق التاريخ والجغرافيا . وفرض مفاهيمنا بوسائل القوة والإكراه المختلفة على الأجيال المتعاقبة . تربينا على الولاء المطلق والأعمى للسلطة الثقافية المفروضة علينا ، تربينا على الطاعة والخضوع وتمجيد العبودية ، وتحويل كل شيء إلى مقدس ومحرم . . تربينا على أن نكون مجرد قطيع مدجن ومروض للحاكم المتأله المشوه عقليا ونفسيا وسلوكيا . وحلت ثقافة الموت بديلا لثقافة الحياة ، فقط من أجل أن يكون كل شيء وقودا لحياة الجنون الوحشية ، لحياة الخوف والموت واستلاب الكرامة والحرية والإنسانية خدمة للحاكم المعتوه المنحرف .
الحرامي يرى الآخر من منظوره : يرى الآخر حراميا ولصا ، ولايمكنه أن يراه بغير تلك النظارة التي لاتعكس الحقيقة والواقع كما هو ، بل كما يبدو بمرآة الذات المريضة المنحرفة . وبهذه الطريقة تعمل ثقافة الموت ، إنها تكرس الرؤية ال” سرابية ” المخادعة للواقع ، وتحارب كل رؤية مناقضة لها وداحضة لها . والمشكلة أكبر من هذا ، حين تشمل تلك الطريقة في الرؤية كل شيء من حولك قريبا كان أم بعيدا ، وكل من يخالف تلك الرؤية يندرج تحت التصنيف نفسه . وكثيرا ما نعيش مع نماذج بشرية تحمل مثل تلك الفيروسات الثقافية ، وترى كل شيء من منظورها المريض المتعصب والذاتي أصلا . وهي تكره كل ماحولها مادام لايتوافق مع وجودها ومنطقها المغالط والشاذ والمتعصب .
إن ثقافة الحياة لايمكن مقاومتها ، لأنها تمثل قوانين الطبيعة ونواميسها . وهي ستنتصر بحكم قواها الذاتية ، على أية ثقافة ” ستاتيكية ” معادية لها . وإن سلاح ثقافة الحياة الأقوى هو العلم والمنطق وقوة الحياة التي هي الأصل في الأشياء ، وهي التي تتضمن غريزة الدفاع عن البقاء والاستمرار ، والتي تتضمن الدفاع عن شروط ومقومات الحياة الأساسية المادية والمعنوة والاجتماعية .
في عصرنا الراهن تنتصر ثقافة الحياة على ثقافة الموت ، وسوف تستمر تلك الحالة حتى هزيمة آخر معاقل ثقافة الموت في كوكبنا الأرضي ، وحينها سنشهد عالما مختلفا عن عالمنا الراهي ، إنه عالم المستقبل الحر ، الذي لامكان فيه للاستبداد والإرهاب والعبودية من أي نوع . وسوف يكون المستقبل مزدهرا وعامرا بالبناء والأبداع والتعاون البشري الشامل على قواعد الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية .

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *