بقلم:نصري الصايغ
***
لست وحدك في هذا العالم، إلا عندما تختار ان تكون وحيداً، بعيداً عن بيتك ومدينتك وبلدك وأمتك، فتختار مكاناً قصياًً، فتستحضر أحداثاً، كتلك التي تقع في بلاد تنتفض وترتج وتعاني و.. تبشر، ومنها يتساقط الشهداء صعوداً، وفيها يتهاوى الاستبداد، بلا أسف، بل بفرح
لست وحدك إلا عندما تكون وحيداً، تسأل نفسك عن أمور إشكالية وأحداث بلا حدود وشعب بلا قيود
خمسة عشر يوماً، كنت فيها مع حالي، ما بين باريس وبحر المانش، أحاسب فيها نفسي وأمتحن مواقفي: «هل كان تفاؤلك مصطنعاً؟ هل كان اندفاعك تهوراً، هل كان إيمانك بثقل حبة الخردل، أم أقل قليلاً، أم أكثر كثيراً؟ هل كانت تونس، عن جد، فاتحة عصر «سقوط الدكتاتوريات»؟ هل كانت مصر، عن حق، بوابة العبور إلى الثورة الديموقراطية؟ هل أخطأت في التقدير، وقال التاريخ شيئاً آخر ولم تفهمه؟ ثم… هل أن غودو العربي قد جاء، ولم يعد الانتظار السياسة الوحيدة التي أدمنت عليها نخب القعود في زوايا اجترار السقوط؟ وهل صار العرب عرباً؟
خمسة عشر يوماً، تذكرت أثناءها، وأنا أشاهد قطعة من جدار برلين معروضة في محلة «الديفانس» في باريس، أن جدار برلين سقط بالفعل، وأن أحداً قبل ذلك لم يرهص به. وتذكرت أننا احتفلنا بسقوطه، إبان عملنا اليومي، في الصحافة المهاجرة إلى باريس. وتذكرت كيف فوجئت أوروبا بسقوط بولونيا الكاثوليكية جداً، فيما كانت تتنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي انطلاقاً من الجمهوريات الإسلامية فيه، (تجدر مراجعة «الخبيرة» دانكوس، التي باءت خبرتها بالفشل). لقد أسقط البابا يوحنا بولس الثاني لينين في بولونيا، ممثلاً بليش فاليشا، كما أسقط الشعب الذي، بعدما كفر بلينين، لجأ إلى الكنيسة، مؤقتاً وبشكل عابر، كي يهزم الدكتاتورية
تذكرت كذلك، ان أوروبا الغربية، لم تصنع ثورة أوروبا الشرقية، وأن الغرب، استلحق نفسه، فركب موجة الاعتراضات الشعبية، وفاز بحصة منها في ما بعد، باستثناء المانيا الاتحادية التي كانت تعمل باستمرار، من أجل إسقاط الجدار، وإعادة توحيد ألمانيا. والثورة العربية الراهنة، اندلعت، فيما كان الغرب ينام في مخدع الدكتاتوريات العربية، ثم استلحق نفسه فتواعد معها في ليبيا. وقد لا تتكرر هذه المواعيد
الثورة الديموقراطية في المعسكر الاشتراكي آنذاك، لم تنشأ من تحريض غربي. كانت الحرب الإعلامية، ضد السوفيات، الخبز اليومي للدول الغربية. وكان الاستنزاف العسكري سياسة أميركا، عبر تصعيد برامج التسلح، وعسكرة الفضاء. ومع ذلك، لم يسقط «الاتحاد السوفياتي العظيم»، بالضربات الإعلامية، ولا بالضربات العسكرية. وليس صحيحاً أن ريغان وبعده جورج بوش الأب، هما من أسقطا الإمبراطورية العظمى في التاريخ الحديث، وبانية «الجحيم الاشتراكي»، بديلاً عن «النعيم الشيوعي». لقد سقط الاتحاد السوفياتي، لأنه كان دولة الجيش الغني والثري والمتنفذ والحاكم والمستبد والقاهر والـ… ودولة الشعب الفقير والمنبوذ والمضطهد والمقموع والمرذول والمؤجل والـ
لقد صنعت شعوب المعسكر الشرقي ثورتها من الداخل. ولكم كان مشهد رئيس ألمانيا الشرقية هونيكر معبراً، عندما شاهد بأم عينيه، الجماهير التي أخرجها الأمن السياسي، (الستازي) للاحتفال بالعيد الأربعين «لألمانيا الديموقراطية»، وبدل ان تهتف له، هتفت للإصلاحات التي كان قد بدأها الضيف المميز آنذاك غورباتشيف. هذه الجماهير، التي جيء بها، غب الطلب، كما جرت العادة، تحوَّلت في لحظة، إلى جماهير غاضبة، ترفع قبضاتها، مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة… كم كان هذا المشهد السري، شبيهاً بلحظة تجمد شاوشيسكو عندما هتفت جماهير رومانيا بسقوطه
في باريس، وأحياناً في عزلة بحر المانش، الفاصل بين بريطانيا وفرنسا، كانت تعود إليَّ، من دون استئذان، صور الماضي الأوروبي، التي تشبه في بعض وجوهها، الزحف الجماهيري الذي يقود الثورة العربية الديموقراطية لإسقاط «الاتحاد العربي الدكتاتوري»، و«معسكر الاستبداد العربي» وما بين السقوطين، نقاط تطابق يجدر التوقف عندها
أولاً: يشبه الدكتاتور نفسه، لا شعبه. الدكتاتور، من صنف خاص. هو فوق البشر وفوق الشعب وفوق المؤسسات، وفوق القيم، وفوق المبادئ، وفوق الإنسانية.. هو إله تام، ويمارس ألوهته الشريرة، بالوسائل كافة. لا يمتنع عن حرام ولا يتنازل عن حلال. لا وعد عنده بسماء أبداً. الجحيم مكان إقامة الناس.
ثانياً: الدكتاتور منزه عن الخطأ. وهو الكامل، فكراً وقولاً وممارسة. يعزى إليه القول، ولا يسمح بأن ينتمي أي فعل إلى سواه. والدكتاتور، رأس الحزب. والحزب ذيل الدكتاتور. ستالين نموذجاً. ومن بعده كثيرون. ولا فرق بين دكتاتور تقدمي، وبين دكتاتور فاشي. يمكن ان يكون بثياب ستالين أو بزي هتلر
ثالثاً: الدكتاتور، يكثر الحديث، عن الشعب، فيما هو يحتقره ولا يلتقيه أبداً، إلا للركوب على أمواجه المستجلبة غصباً عنها. وهو يعرف أن الشعب يكرهه، فلا يأمن جانبه. فيحاصره ويراقبه ويفتشه، ولأنه يخشى منه، وتزداد خشيته مع الزمن، فإنه يتعامل معه كأنه مؤامرة دائمة… هل الشعوب العربية متآمرة، وعمر مؤامراتها من عمر الاستبداد؟
رابعاً: الدكتاتور، قبضة متأهبة. لا حياة له من دون قمع. إذا تراخت قبضته، دنا أجله. وإذا تجرأ شعبه، قرب حتفه. وعليه، فهو دائم اليقظة، ويسهر على إنامة شعبه في كهف العجز، والعطالة، والانتظار. ولكنه يعوِّض عن غياب الشعب، بعصبة من المتعاونين، عائلياً وحزبياً ومصلحياً، ويكونون اشد وطأة على الشعب، من الدكتاتور نفسه. (راجع ابن المقفع، في كليلة ودمنة، وفتنة أهل الرأي في الممالك)
تعود إليك وجوه الشبه هذه في لحظة الوحدة. تستعيد مشهد سقوط هونيكر في مدينة لايبزغ: الحشود تخرج إلى الشارع من الكاتدرائيات. يتساءل هونيكر، لم الكاتدرائيات؟ كما يسأل الحكام العرب اليوم: «لماذا يخرجون من الجوامع؟» كأن هناك أمكنة أخرى يمكن الاجتماع فيها؟ لا أحزاب، لا منابر، لا جامعات، لا صحافة
وتزداد أعداد المحتشدين، فيأمر هونيكر بمنع المتظاهرين من الخروج من الكاتدرائيات. يرفض الجيش بحجة أنه عاجز عن وقف الحشود. يقول الجنرال: «يكفي أن يعتلي متظاهر ظهر دبابة رافعاً قميصه علماً، حتى يتوقف الرتل»
يقول هونيكر: إذن، «أطلقوا الرصاص». يجيب الجنرال: «الجيش لا يطلق النار على الشعب». يسأل هونيكر عن الأمن وعن «الستازي». يقول الجنرال: «إنه فقد السيطرة، ولا يستطيع مواجهة الجموع»
فهم هونيكر نهايته، وقف مودعاً «رفاقه» بالقول «هذه مؤامرة خارجية»، لا غرابة في ذلك. المؤامرة مقيمة في رأس الدكتاتور، إذ لا يعقل أبداً، في ظنه وعمق فكره، ان يكون الشعب ضده، فالشعب، إما غير موجود، وإما انه مقيد، وإما انه يذوب حباً بمعبوده
وفيما أنت تجلس وحيداً، وتتأمل أحوال أمتك، ترى أن زلزالاً كبيراً حدث في ثمانينيات القرن الماضي، أزال الاتحاد السوفياتي العظيم ومنظومته «الاشتراكية» العالمية، وترى أيضاً، زلزالاً عربياً بدأ يحفر تضاريس عالم عربي جديد، عنوانه «الشعب يريد»، فتعطيه أنظمة وتسقط، أو لا تسمعه أنظمة فترتج وتترنح، أو تقاومه فتدخل في الفجيعة بعويل «الحروب الأهلية
يعود إليك تفاؤلك، لأنك تتيقن، أن لا أحد بعد اليوم، قادر على تحويل البلاد إلى زرائب، والشعوب إلى قطعان حيوانات أليفة ومطيعة، لا هم لها سوى البحث عن النجاة من عصا «الراعي» (الدكتاتور). غير أنه تفاؤل بالحرية، تشوبه مخاطر استدراج عروض التدخل الغربي، وهو تدخل مدفوع الثمن مؤجلاً، بمواثيق وعهود وعقود وسياسات وأسواق. رأس المخاطر، إقامة «معسكر ديموقراطي» بوجوه طائفية وإثنيه وقبلية، لا يكون لها ثقل إقليمي ولا حيثية خارجية
يقودك هذا الخوف إلى لبنان. خطر انزلاق الحرية إلى الجماعات لا إلى الأفراد. تنشأ ديموقراطيات على الطريقة اللبنانية، تعطل مسار الحرية وتخلق دولاً كسيحة، لا مفر من الخارج في إدارة شؤونها الداخلية ولا كذلك، من الامتثال لإملاءاته في الشؤون الخارجية… والخارج هنا، غرب لا ضمير له ولا مبادئ
تعود إلى لبنان من إجازتك. لا شيء تغيَّر. فهو حيث كان، نظام بلا أفق. قيادات بلا أفق. وجماهير، أفقها البعيد، مرتبط بأنف طائفتها الأفطس. لبنان استثناء، لا يعوَّل عليه، إلا في مواجهة إسرائيل. وهذا كاف، في زمن انعدام البدائل
لست وحدك في هذا العالم. العرب حضروا بكثافة. لسنا مشهداً ثقيل الوطأة. إننا ولادة متصلة بمخاض عسير. لا ولادة بلا ألم. ولكن المولود الجديد، الديموقراطية العربية، سيكون بدءاً جديداً، بلا دكتاتوريات. سيكون بدءاً بشعوب. كل الأمل أن تستكمل ثورتها، بإقامة أنظمة سياسية جديدة، تتأسس على الحرية، والديموقراطية. بلا عورات إثنيه وطائفية وعشائرية، تحترم حقوق الإنسان، وتعلي الإنسان كقيمة لا تسمو عليها قيمة إطلاقاً، وتشركه في صناعة مصيره وفي إدارة دورة إنتاجه
التاريخ العربي الجديد، عنوانه «الفتح الديموقراطي»، وها هو يكتب نصه الأول، وسيكتمل بفعل سقوط الدكتاتوريات جميعها، وبفعل انتصار قيم الحرية والالتزام بها
*** بريشة هاني عباس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ