فصل النهايات: ولادة الأمة المتوحشة

 بقلم:نصري الصايغ

الوقت العربي نفد من دون أن نصدق. غلب الإسلام السياسي بأزمانه الدينية، عروبة مدنية، قست على عروبييها فاحتل الفراغ الفكري الأمكنة. «الربيع العربي» الجميل، شوهه الاستعصاء المذهبي، اختطفه الإسلام الرسمي المرسمل بالآية والنفط، ودمَّره الاستبداد العسكري. الأمة راهنا، باتت بلا عروبة، ولذا، ما عادت أمة، تؤم إلى الناس، وتلمهم في شعب.
الوقت الإسلامي يتقدم بما يلزم من الدماء والقتل والدمار. هذا الوارث للكوارث العربية والحروب الأخوية والظلم السلطوي، احتل الجغرافيا العربية، بعد زرع خلاياه الوبائية في بنية الجسد العربي الذي أنهكته سياسات الغرب، ومعاهدات الاستتباع… وقت الإسلام الدنيوي المسلّح، بالآية المنتقاة، بالحديث المنسوب، بالتجربة المختزلة، بالسند العشوائي، بالوهابية ذات اللسانَين والوجهَين. وقت الإسلام هذا، يدشن حقبة من التاريخ، يعبر من بطونه، حكايات الأهوال التي ابتدعتها “عبقرية جز الأعناق”، زمن هولاكو وجحافله… ويبدو أن البداية الجديدة، تفوقت على البرابرة الذين جعلوا التاريخ مقبرة. هل ستتسع الأمة إلى هذا الحشد من القتلى؟
فأي مشرق اليوم، وأي بلاد غدًا؟
الدعوة إلى التفكير بمآلات العرب والشعوب العربية والكيانات العربية والمجتمعات العربية، لم تعد مجدية. فما مضى، قد مضى وانقضى. ليت تلك تعود. ولكنها لن…
الدعوة التي وجهها “المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، لقراءة ومناقشة “تحديات الوضع العربي الراهن وفرصه”، في محاولة لتحليل واستشراف المستقبل، جاءت مرفقة بورقة عمل أوجزت التوصيف والرؤية والمسارات الممكنة. قدمها الدكتور عبد الحليم فضل الله إيجازا، بوصف دقيق وتفاؤل محسوب… إنما.
محاولتي للاقتناع، والمنطقة في حالة ضياع، باءت بالفشل. ففي ظني، وآمل أن أكون مخطئًا، أن الأمة ليست في صدد تحولات تشمل العالم العربي، بل هي في لحظات النهاية.
تقول الورقة إن التحولات التي عصفت بالمنطقة منذ أربعة أعوام “لم تفضِ إلى مسار للمنطقة أو وجهة لها”. هي إذًا في الضياع. “الوعود” التي حملتها موجة الاحتجاجات العربية تضاءلت، فالحروب التهمتها، و”بات البحث مقتصرًا على محاولات لإيجاد حلول للأزمات المستجدة”. “الحرية والعدالة والمساواة” ماتت باكرًا. عمر الربيع العربي، أقل من فصل. تشرح الورقة المشهد الذي عصف بالمنطقة: “تقدم القوى المتطرفة”، “تصاعد النزعة التدميرية”، “موجة صراع هويات” بلا أفق (وبالمناسبة، يعتبر نعوم تشومسكي، أن القرن العشرين، شهد ثلاث ديكتاتوريات: الستالينية والفاشية وسياسة انعدام الأفق، ونحن في ظل هذه الديكتاتورية العاتية). وتشير الورقة إلى تهديدات، ارتفعت وتيرتها بعد غزو العراق العام 2003، الذي دفع أطرافاً محلية وإقليمية ودولية وغير دولية، لتصور المشهد بتداعياته التدميرية وفق الترسيمة التالية: وحدة دول المنطقة مهددة، قوى التفتيت والتجزئة في الصدارة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، متكئة على قوى إقليمية معروفة، وتستفيد من تقاطع المصالح.
هذا المشهد، كأنه يتكرّر مع تأصيل للمأساة وتسييد للدمار وتأييد لفقدان الأمل، “باستيلاد مشروع عربي وإقليمي بديل”. القوى القديمة أقوى من “القوى الجديدة”! لعل لعنة النفط وريوعه من الأسباب التي عرقلت التغيير وعمقت الانقسامات وأثارت العصبيات، “سواء داخل العالم العربي نفسه، أم مع بعض دول الجوار”.
هذا المشهد الذي رسمته الورقة، لا يحمل أي احتمال جدي، وأي فرصة متاحة وأي إمكانية متوفرة، لتأليف الجملة الأولى من نص الخلاص، أو من ورقة تسوية لحقبة انتقالية غير متوفرة المعالم.
فما طرحته الورقة، آمال فضفاضة لمشروع عربي جديد “يتجاوز الانقسامات الراهنة ويتحلى برؤية شاملة وطموحة”. عظيم! ولكن أي قوى ترفع هذا المشروع؟ القوى المقصودة تضاءلت وبالكاد تجدها على رصيف الهوامش البعيدة. من؟ سؤال لا جواب عنه. الغيب السياسي يشبه الغيب الديني، في حال انعدام الواسطة والفعل والفعلة. جيل الاحتمالات خاب وانقرض. جيل البدايات العربية الواعدة، خرَّبه الغرب ودمرته السلطات “العربية” اللعينة. جيل الوحدة المحتملة والحرية المطلوبة والسيادة القومية والتحرير المنشود والتنمية البشرية، فشل وانتهى، كان جيلًا رائدًا. المشهد العربي خلا منه، وليس فيه، إلا أدوات “الفتنة العظمى”.
لا أمل، في الأفق المنظور الملبد بالمعارك والجنون. والاعتراف بانعدام الأمل هو دعوة للتفكير بطريقة أخرى، ودعوة للبحث عن تأسيس جديد، وليس من جديد بأدوات قديمة وقوى منهكة وأفكار متعبة. التأسيس، هو لما بعد الانتهاء من الانهيارات والنهايات… يصعب العمل مع الموت. الاجترار باهظ وكلفته دم، سأحاول التدليل على جدارة هذه الاستنتاجات، بما يلي:
حاول ميخائيل غورباتشوف، من خلال “البيريسترويكا” و”الغلاسنوست”، إعادة الحياة، في رميم الاتحاد السوفياتي. كان على رأس السلطة، بشعارات طموحة، تُخْرِج الدولةَ العظمى من مأزقها المزمن، الذي اختنقت في مستنقعه. ومستنقعها من صنع سياساتها ومؤسساتها وقادتها وأفكارها ومافياتها. لم ينجح غورباتشوف. سقط العملاق السوفياتي، من دون عنف. كان مهترئًا وميتا من عقود، ومحاولة إحيائه، كانت إيذانًا بإعلان دفنه، بعد موت غير معلن.
الإمبراطوريات تنتهي. ونحن في هذا الصدد. آمل، مرة أخرى، أن أكون مخطئًا. حلم الإمبراطورية العربية، قاده أقزام من عساكر الردة إلى الطائفة والعشيرة، وحولوا الأحزاب حظائر مسوَّرة بحراس القمع. حاول ضباط وقادة “تركيا الفتاة” إنقاذ السلطنة العثمانية، التي بلغت إمبراطوريتها القارات الثلاث. عبث. كانت قد تخثرت وفقدت حيوية البقاء. ظن قادتها، ان “عودة الروح” ممكنة. كان الجسد العثماني قد لفظ أنفاسه. لقب بالرجل المريض. هو كان ميتًا غير معلن.
الإمبراطورية سقطت كتفاحة مهترئة. ونحن كذلك، والأدلة كثيرة، علمًا اننا لم نكن إمبراطورية، إلا في الوهم، ولم نكن دولًا، إلا في النصوص، ولم نكن شعبًا إلا في الخطب والأناشيد الثورية.
من علامات النهايات ما يلي:
أولاً: كان “سايكس ـ بيكو” لعنة، وبات فضيلة قومية، الخاسرون اليوم يصرخون: حذار سايكس ـ بيكو تمسكوا بالتقسيم. هذا خير من الخراب والعدم.
ثانياً: ثوابت ودعائم النظام العربي، وكل دولة من دول المشرق، ذهبت مع الريح الإسلامية الناشطة. الدولة القطرية انتهت. الكيانات المضادة لدول سايكس ـ بيكو، هي البديل الكارثي المتوقع: كيانات سنية، شيعية، كردية، أقلويات. والانتهاء من ترسيم حدود هذه الكيانات يفترض الاستمرار في المعارك، لتدمير آخر معاقل سايكس ـ بيكو، أو لإعادة ترتيب الكانتونات الصغيرة، داخل كل كيان، فأي أفق في هذا الدمار؟
ثالثاً: انطلقت العروبة، واستند الفكر القومي عموماً إلى مقولة وحدة الشعب العربي، الذي أساءت إليه دول الغرب، حيث وزعت العرب شعوبًا في كيانات بحدود صارمة، وسلطات تابعة لحراسة هذه الحدود وعدم المساس بها… لا شعب عربيًا راهنًا. واستعادة لحمة العروبة شعبيًا، تقتضي نهاية، غير متوقعة قريبًا أو بعيدًا، لحرب “المئة عام” بين الطوائف والمذاهب والعشائر و”الصحوات” وحروب الدول الإقليمية، ذات المصلحة بإبقاء المنطقة في حالة فراغ مثلى، وإلا، فلتبقَ في حالة فتنة وتدمير… المشهد التدميري في سوريا والعراق نموذجان، قد تحتذيهما حروب الإسلاميين في غير منطقة عربية، وقد باتت الصومال وليبيا واليمن وسواها دولًا فاشلة، وشعوبًا منقادة، بغريزة المذهب وحصص السلطة، لما توفره من مال ونفوذ واستبداد واستئثار.
رابعاً: الثقافة العربية العروبية تضاءلت. استبدلت هذه بالثقافة الإسلامية من جهة، والثقافة النيوليبرالية ذات المرجعية النفعية من جهة ثانية والفارق شاسع. وشتان ما بين عروبة انتقت من التراث العربي الزاخر بالعطاءات الفكرية والفلسفية والفنية والشعرية والعمرانية والإنسانية والتعددية، وبين العودة إلى التراث الديني، للتحصن فيه وتقليده ومسخه واستغلاله وتشويهه وتقديمه بأبشع صوره: “داعش”، ليست وحيدة. سبقتها دعوات “الحاكمية لله”، وروّجت لها اخوانيات، تسلطت على التراث، وأخذت منه شعار: “الإسلام هو الحل”. وهو من أكثر الشعارات فشلا وأفدحها نكبات. والبينة واضحة في سوريا والعراق وكردستان وليبيا والصومال. «الإسلام هو الحل»، شعار فاشل، كشعارات مثل الجيش هو الحل، والقائد الملهم هو الحل… العروبة الثقافية احتل فضاءَها موجٌ من العتمة الدينية التي تكتب التاريخ، بجز الأعناق، واقتناء السراري، وبيع النساء حرائر، وتقييد الإنسان، بروابط الشكل، حجابًا ومصافحة و… وترك روحه لثأر العصبية. لا إنسان في ما نراه من المعارك الطاحنة. إن الأمة في مسار اكتمال التوحش فيها.
خامساً: الاقتصاد العربي البيني ضئيل. العرب من دون اقتصاد بشروطه العربية. القول ليس لي. النشاط “الاقتصادي” العربي، يشبه صفقات المافيا. هو طفيلي، ريعي، سمسراتي، مهاجر، فائض، موظف في عمليات شراء واقتناء وتبذل وفحش. فيما الشعوب، في الدول الأغنى نفطياً، تعيش في حاجة ومذلة. تقرير التنمية عن البلاد العربية وصمة عار.
هذا “الاقتصاد” العربي السائد، نجح في جعل الشعب ملحقاً بالسلطة المالية التي اقترنت بالسياسة والممالك والجمهوريات. صارت الشعوب مستلبة من قوى دينية أصولية، ومطواعة بسبب حاجتها إلى من يسد حاجاتها، بالتي هي تذِل.
سادساً: أخيراً ظهر “داعش”، في الظن، أن «الدولة الإسلامية»، ليست حدثًا عابرًا. قوتها المذهلة، احتياجاتها السريعة، انتصاراتها المتتابعة، إعلان خلافتها المشتهاة، توطد هيئاتها في مشروع دولة، مؤسساتٍ وجيوشًا وتنظيمًا وفق الشريعة بشراسة الفرض والقوة والقصاص، كل ذلك، تدليل إلى أنها “الجديد” المقيم.
هذا الذي خرج من قمقم التخلف والتعصب والجمود، استطاع ان يتبوأ المشهد كله، ويتصدر الأحداث العالمية. ولا دولة في المنطقة تعصى عليه. الجميع سقط، إما بالفعل المادي في الميادين، أو سقط خوفًا منه. اجتمع العالم، أعداء وأصدقاء، لمحاربته. وحتى الآن، لا يبدو أنه يتوقف عن زحفه.
ليس العرب في حال تحول، بل في مآل الزوال، ولو لحقبة أو عصر، وهذا تدليل على أن مئة عام من العرب، قد انتهت، إلى بدء تاريخ جديد، لمنطقة تتشكل وفق منطوق الآيات والسيوف والعمائم، ووفق مطامع دول إقليمية، لها في المشهد، مواقع أقدام ودماء.
الاعتراف بالنهايات، شرطٌ أول للتفكير بالمستقبل. مستقبل ما بعد الحروب الدينية، مستقبل تولد فيه عروبة منفتحة، علمانية عن جد، تقطع مع الدين، تحترمه وتضعه خارج السياسة والدولة. عروبة ديموقراطية، ضد العسكر، كما ضد رجال الدين. عروبة تؤمن بالتعدد الثقافي والأقوامي، بشرط الارتكاز على المواطنة، إذ لا مجتمع لشعب، من دون المواطنة، حيث يتساوى الجميع أمام القانون. عروبة الثقافة والإبداع والتجدد، عروبة التنمية والاقتصاد والمنتج، عروبة تعلي الإنسان على السلطة والعقيدة والتقليد، وتجعل منه القيمة العليا، ومن عقله الشرع الأعلى.
هذه البدايات، يلزم أن تبدأ من الآن، بشرط أن تنصرف إلى بناء المستقبل، بعد أن يكون قد اكتمل الركام والدمار… فلندعِ الحربَ الدينية المفتوحة، لتنهك الجميع، وتسقهم في العجز.
هل هذا انسحاب وانتهازية؟
فليكن. إنه خير من الانغماس في الراهن والرهان على أرباح موقتة وزائلة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *