بقلم:عزمي بشارة
قد يَستغربُ حتّى جزءٌ من الباحثينَ المقولةَ التي تفيدُ بأنّ الطائفيّةَ، بمعناها المقصودِ في الخطابِ السياسي العربي في عصرِنا، ظاهرةٌ حديثة. ولتبديدِ بعضِ هذا الاستغرابِ، نقولُ إنّ الطوائفَ والعصبيّةَ ليست ظواهرَ حديثةً، وكلاهما كامنٌ في مفهومِ الطائفيّة، انطلاقًا من ديناميةِ المحايَثة Immanence الضروريةِ بين الطائفيةِ والعصبية. ولكنّ المقصودَ بالطائفية في الخطابِ السياسي العربي في أيّامِنا، سواء أكانَ مفهوماً نحاولُ تأسيسَه ويفيدُ في تحليلِ الظواهرِ الاجتماعيةِ القائمة، أَمْ كان حكمَ قيمةٍ تبخيسيًّا معروفًا عن ظاهرةٍ بغيضةٍ، هو أمرٌ مختلفٌ عن التعصّبِ لِجماعةٍ، أيِّ جماعة. وهي، بالتأكيد، أمرٌ مختلفٌ عن الطائفةِ، أَي الجماعة ذاتها، بمعنى أنّها طائفةٌ من البشر، أو فئةٌ من جماعةٍ أكبرَ. وفي الدلالةِ القرآنيةِ لِلَفْظِ الطائفة، نجدُ وصفًا لامعياريًّا لفئةٍ هي جزءٌ من كُلّ، كما تُظهِر الآياتُ التي تردُ فيها كلُّها. ولم يكتسِبْ مضامينَ معياريّةً سلبيةً، إلّا في القرن الرابعِ الهجري/ العاشرِ الميلادي الذي يَتعارفُ المؤرِّخونَ المعاصرونَ على وضعِه في أساسِ تحقيبِهِم العصرِ العبّاسي الثاني؛ طردًا مع انقسامِ الخِلافة، وتَضَعْضُعِ سلطتِها العباسيةِ، لمصلحةِ إماراتِ الأطرافِ المتغلِّبةِ، أوْ بِما يفيدُ التشرذُمَ مقابلَ الوِحدة.
|
فالطائفيّةُ التي يجري الحديثُ عنْها هي، بالتحديدِ، عَدُّ أتباعِ الدينِ، أو المذهبِ المعيَّنِ، جماعةً تمثِّلُ امتدادًا أو تواصلًا تاريخيًّا (أي أنَّ لها تاريخًا) وذاتَ حدودٍ اجتماعيّةٍ، ولها ناطقون باسْمِها (علمانيِّين، أمْ رجالَ دِين) يَذودُونَ عنْها، ويصيغون مَصالحَها بِلُغةِ التعايشِ والخُصومةِ مع جماعاتٍ أُخرى. ويخلِقُ هذا تصوُّرًا عَنْ كيانٍ له أُسطورةُ مَنْشأ، وسرديةٌ تراوَحُ بين صَوْغِ مشاعرِ الغُبْنِ ومَشاعرِ الافتخارِ والكِبْرياء. ولكَيْ يَثبتَ التواصلُ التاريخي، غالباً ما تُسقَطُ على الماضي مصطلحاتُ الطائفةِ في فهمِ ذاتِها ومحيطِها في الحاضر. وهذا ممَّا أصفه باللُّغةِ التاريخيةِ النقديةِ بالمغالطةِ الزمنية، أو اللازمنيّةِ التاريخية.
والأهمُّ من هذا كلِّه أنَّ سياقَ الطائفيّةِ السياسيةِ، بمعناها التحاصصي المحدَّدِ، يرتبطُ بمرحلةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ، نَشأتْ فيها الدولةُ الوطنيةُ والجماعةُ القوميةُ، وأصبحَ ممْكِنًا الحديثُ عن عصبيةٍ لقطاعاتٍ فيها، تقومُ على الدينِ والمذهبِ، وأَصبحَ يُمكنُ تصوّرُها، والمطالبةُ بحصّةٍ في الدولة، حتّى حيثُ لم تنشَأ الدولةُ بَعد، أيْ قبلَ الاستقلال. فتختلِفُ الطائفيةُ السياسيّةُ المعاصرةُ عن الطائفيةِ الثاوِيةِ في نظامِ المِلَلِ العثماني، في أنَّها تقومُ على المحاصَصةِ السياسيّةِ المؤسسيةِ، أو شِبْهِ المؤسسيةِ للطّوائف، بينما كان نظامُ المِلَلٍ إطارًا تنظيميًّا قد يَنطوِي على التهميشِ، لكنّه لا يَنطوي قَطُّ على المحاصَصةِ وترسيمِها.
وتَتفاوَتُ هذه السردياتُ بينَ الطائفةِ، بوصفِها جماعةً أهليةً مألوفةً للفردِ من بيئتِه المحليّةِ، والطائفيّةِ الأهليةِ المرتبطةِ بها، والجماعةِ الطائفيّةِ المتخيَّلةِ في مرحلةِ ثقافةِ الجماهير، سواءٌ أَقُصِدَ بها طائفةٌ غيرُ محلّيةٍ في الدولة الوطنية كلِّها أَمْ عابرةٌ للدُّول. ونحن نَتعاملُ، عادةً، مع الطائفيّةِ السياسيةِ والنّظامِ الطائفي بوصفِهما ظاهرَتيْنِ في إطارِ الدُّول، وليسَتَا عابرتَيْنِ لها، ولكنّهما قد تُسخِّران الرابطَ الطائفيَّ العابرَ للدولِ لتَوْثيقِ روابطَ تَضامنيّة، أَوْ لغَرَضِ التدخّلِ في دُولٍ أخرى. ويتعلّقُ ذلك باستخدامِ الطائفيةِ في العَلاقاتِ الخارجيةِ التي تنعكِسُ بالضرورةِ على الأوضاعِ الداخلية.
وفي حالةِ الطائفةِ، بوصفِها جماعةً متخيَّلةً متجانسةً تتّبِعُ مذهباً أو ديناً تتخيّلُه متجانساً أيضاً، تُسقَطُ على التبعيّةِ للدينِ مصطلحاتُ القوميّةِ وتعابيرُها وأدواتُها. وتتحوَّلانِ سَويّةً إلى فعلٍ سياسيٍّ في داخلِ الطائفةِ، فينعَكِسُ على مستوى الوِحدةِ الطائفيّةِ، وإشراكِ العامّةِ في السياسةِ عبْرَ الهُويّةِ المشترَكةِ المميّزةِ والمحدِّدةِ التي تجمَعُهمْ بنُخبِ الطائفة. ويَبدو الفِعْلُ في هذه المرحلةِ ثَوْريًّا في بعضِ الحالاتِ، وقَدْ يتجلَّى على شكلِ مَطالبَ مساواتيةِ الطابَعِ داخلَ الطائفةِ، بالتشديدِ على الاختلافِ عن الطوائفِ الأخرى، والمشترَكِ داخلَ الطائفةِ عينِها.
أمّا على مستوى عَلاقةِ الطائفةِ بالدولةِ، وبقيّةِ الطوائفِ في المجتمعِ، فتَظهرُ في الصراعِ مِنْ أجلِ حصّةٍ أكبرَ من الدّولةِ، تَرجمةً لوَزنٍ ديموغرافي، أو لقوّةٍ اقتصاديةٍ وثقافيةٍ، أَوْ تعويضًا لغُبْنٍ تاريخيّ أو غيرِ ذلك. وحين يُستَخدمُ التعويضُ عن الغُبنِ التاريخي أداةً لتحصيلِ امتيازاتٍ (وليس حقوقًا مُتساوِية)، أو مبرِّرًا للتحالفِ مع قُوًى أجنبيةٍ (وهذا نوعٌ من الامتيازات) تصبِحُ كتابةُ التاريخِ من هذه الزاويةِ مسألةَ مصالِحَ سياسيةٍ ومُيولٍ أيديولوجيةٍ وضروراتِ ترسيخِ الهُويّة. وباختصارٍ، إنّه مسألةٌ خطابيّةٌ (discursive) لِدَواعٍ عمليةٍ أو سياسيةٍ.
|