قد يَستغربُ حتّى جزءٌ من الباحثينَ المقولةَ التي تفيدُ بأنّ الطائفيّةَ، بمعناها المقصودِ في الخطابِ السياسي العربي في عصرِنا، ظاهرةٌ حديثة. ولتبديدِ بعضِ هذا الاستغرابِ، نقولُ إنّ الطوائفَ والعصبيّةَ ليست ظواهرَ حديثةً، وكلاهما كامنٌ في مفهومِ الطائفيّة، انطلاقًا من ديناميةِ المحايَثة Immanence الضروريةِ بين الطائفيةِ والعصبية. ولكنّ المقصودَ بالطائفية في الخطابِ السياسي العربي في أيّامِنا، سواء أكانَ مفهوماً نحاولُ تأسيسَه ويفيدُ في تحليلِ الظواهرِ الاجتماعيةِ القائمة، أَمْ كان حكمَ قيمةٍ تبخيسيًّا معروفًا عن ظاهرةٍ بغيضةٍ، هو أمرٌ مختلفٌ عن التعصّبِ لِجماعةٍ، أيِّ جماعة. وهي، بالتأكيد، أمرٌ مختلفٌ عن الطائفةِ، أَي الجماعة ذاتها، بمعنى أنّها طائفةٌ من البشر، أو فئةٌ من جماعةٍ أكبرَ. وفي الدلالةِ القرآنيةِ لِلَفْظِ الطائفة، نجدُ وصفًا لامعياريًّا لفئةٍ هي جزءٌ من كُلّ، كما تُظهِر الآياتُ التي تردُ فيها كلُّها. ولم يكتسِبْ مضامينَ معياريّةً سلبيةً، إلّا في القرن الرابعِ الهجري/ العاشرِ الميلادي الذي يَتعارفُ المؤرِّخونَ المعاصرونَ على وضعِه في أساسِ تحقيبِهِم العصرِ العبّاسي الثاني؛ طردًا مع انقسامِ الخِلافة، وتَضَعْضُعِ سلطتِها العباسيةِ، لمصلحةِ إماراتِ الأطرافِ المتغلِّبةِ، أوْ بِما يفيدُ التشرذُمَ مقابلَ الوِحدة.
فالطائفيّةُ التي يجري الحديثُ عنْها هي، بالتحديدِ، عَدُّ أتباعِ الدينِ، أو المذهبِ المعيَّنِ، جماعةً تمثِّلُ امتدادًا أو تواصلًا تاريخيًّا (أي أنَّ لها تاريخًا) وذاتَ حدودٍ اجتماعيّةٍ، ولها ناطقون باسْمِها (علمانيِّين، أمْ رجالَ دِين) يَذودُونَ عنْها، ويصيغون مَصالحَها بِلُغةِ التعايشِ والخُصومةِ مع جماعاتٍ أُخرى. ويخلِقُ هذا تصوُّرًا عَنْ كيانٍ له أُسطورةُ مَنْشأ، وسرديةٌ تراوَحُ بين صَوْغِ مشاعرِ الغُبْنِ ومَشاعرِ الافتخارِ والكِبْرياء. ولكَيْ يَثبتَ التواصلُ التاريخي، غالباً ما تُسقَطُ على الماضي مصطلحاتُ الطائفةِ في فهمِ ذاتِها ومحيطِها في الحاضر. وهذا ممَّا أصفه باللُّغةِ التاريخيةِ النقديةِ بالمغالطةِ الزمنية، أو اللازمنيّةِ التاريخية. والأهمُّ من هذا كلِّه أنَّ سياقَ الطائفيّةِ السياسيةِ، بمعناها التحاصصي المحدَّدِ، يرتبطُ بمرحلةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ، نَشأتْ فيها الدولةُ الوطنيةُ والجماعةُ القوميةُ، وأصبحَ ممْكِنًا الحديثُ عن عصبيةٍ لقطاعاتٍ فيها، تقومُ على الدينِ والمذهبِ، وأَصبحَ يُمكنُ تصوّرُها، والمطالبةُ بحصّةٍ في الدولة، حتّى حيثُ لم تنشَأ الدولةُ بَعد، أيْ قبلَ الاستقلال. فتختلِفُ الطائفيةُ السياسيّةُ المعاصرةُ عن الطائفيةِ الثاوِيةِ في نظامِ المِلَلِ العثماني، في أنَّها تقومُ على المحاصَصةِ السياسيّةِ المؤسسيةِ، أو شِبْهِ المؤسسيةِ للطّوائف، بينما كان نظامُ المِلَلٍ إطارًا تنظيميًّا قد يَنطوِي على التهميشِ، لكنّه لا يَنطوي قَطُّ على المحاصَصةِ وترسيمِها. وتَتفاوَتُ هذه السردياتُ بينَ الطائفةِ، بوصفِها جماعةً أهليةً مألوفةً للفردِ من بيئتِه المحليّةِ، والطائفيّةِ الأهليةِ المرتبطةِ بها، والجماعةِ الطائفيّةِ المتخيَّلةِ في مرحلةِ ثقافةِ الجماهير، سواءٌ أَقُصِدَ بها طائفةٌ غيرُ محلّيةٍ في الدولة الوطنية كلِّها أَمْ عابرةٌ للدُّول. ونحن نَتعاملُ، عادةً، مع الطائفيّةِ السياسيةِ والنّظامِ الطائفي بوصفِهما ظاهرَتيْنِ في إطارِ الدُّول، وليسَتَا عابرتَيْنِ لها، ولكنّهما قد تُسخِّران الرابطَ الطائفيَّ العابرَ للدولِ لتَوْثيقِ روابطَ تَضامنيّة، أَوْ لغَرَضِ التدخّلِ في دُولٍ أخرى. ويتعلّقُ ذلك باستخدامِ الطائفيةِ في العَلاقاتِ الخارجيةِ التي تنعكِسُ بالضرورةِ على الأوضاعِ الداخلية. وفي حالةِ الطائفةِ، بوصفِها جماعةً متخيَّلةً متجانسةً تتّبِعُ مذهباً أو ديناً تتخيّلُه متجانساً أيضاً، تُسقَطُ على التبعيّةِ للدينِ مصطلحاتُ القوميّةِ وتعابيرُها وأدواتُها. وتتحوَّلانِ سَويّةً إلى فعلٍ سياسيٍّ في داخلِ الطائفةِ، فينعَكِسُ على مستوى الوِحدةِ الطائفيّةِ، وإشراكِ العامّةِ في السياسةِ عبْرَ الهُويّةِ المشترَكةِ المميّزةِ والمحدِّدةِ التي تجمَعُهمْ بنُخبِ الطائفة. ويَبدو الفِعْلُ في هذه المرحلةِ ثَوْريًّا في بعضِ الحالاتِ، وقَدْ يتجلَّى على شكلِ مَطالبَ مساواتيةِ الطابَعِ داخلَ الطائفةِ، بالتشديدِ على الاختلافِ عن الطوائفِ الأخرى، والمشترَكِ داخلَ الطائفةِ عينِها. أمّا على مستوى عَلاقةِ الطائفةِ بالدولةِ، وبقيّةِ الطوائفِ في المجتمعِ، فتَظهرُ في الصراعِ مِنْ أجلِ حصّةٍ أكبرَ من الدّولةِ، تَرجمةً لوَزنٍ ديموغرافي، أو لقوّةٍ اقتصاديةٍ وثقافيةٍ، أَوْ تعويضًا لغُبْنٍ تاريخيّ أو غيرِ ذلك. وحين يُستَخدمُ التعويضُ عن الغُبنِ التاريخي أداةً لتحصيلِ امتيازاتٍ (وليس حقوقًا مُتساوِية)، أو مبرِّرًا للتحالفِ مع قُوًى أجنبيةٍ (وهذا نوعٌ من الامتيازات) تصبِحُ كتابةُ التاريخِ من هذه الزاويةِ مسألةَ مصالِحَ سياسيةٍ ومُيولٍ أيديولوجيةٍ وضروراتِ ترسيخِ الهُويّة. وباختصارٍ، إنّه مسألةٌ خطابيّةٌ (discursive) لِدَواعٍ عمليةٍ أو سياسيةٍ.
لَمْ يَخْلُ عالَمُ الطوائفِ المحلّيةِ من العصبيةِ، ومِن أنماطِ الإدارةِ الذاتيةِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ المرتبِطةِ بالتنظيمِ التاريخي للاجتماعِ في المدينةِ الإسلاميةِ بصورةٍ خاصّة، أو حتّى في المجتمعاتِ الريفيةِ أحيانًا، وفِي حالاتٍ مخصوصة. ولا شكَّ في أنَّ الأهميةَ، هنا، هي للانتماءِ للجماعةِ الأهليةِ، سواء أكانتْ عشيرةً أَمْ طائفةً، أَيْ لنمَطِ الوجودِ الاجتماعي السائدِ ما قَبْلَ الحداثةِ الذي يقومُ مدرسيًّا، وبالأَحْرى تنميطيًّا، على سيادةِ العَلاقاتِ العموديةِ مقابلَ العلاقاتِ الأُفقية. لكنَّ الطائفيّةَ بمَعنى استثمارِ التَبعيّةِ لدِينٍ أَوْ لمَذهبٍ ديني، لتحويلِ أتباعِ هذا الدينِ إلى جماعةٍ، تُحافظُ على نفسِها في وجهِ تحدِّي قُطبَي الاندماجِ والتهميشِ، بلْ ومخاطرِ الاستئصالِ، اللذَيْن يهدّدانِ الطائفةَ، ثمّ ترجمتِها إلى قوّةٍ سياسيّةٍ، لها مطالبُ من الدّولة، هي ظاهرةٌ منسوبةٌ للدّولةِ الحديثة. ولكنّها لم تتشكَّلْ مِن لا شيْء؛ فلِلطائفةِ السياسيةِ وغيرِها بداياتٌ غيرُ مكتَمِلةِ التكوُّنِ في الماضي، وهي بداياتٌ كافيةٌ لتكشِفَ عن بذورِ هذه الظواهرِ قبلَ ذلك بمَراحلَ. وبكلمةٍ لها جذورٌ تتغذَّى ذاتيًّا بنفسِها في الشروطِ التي تستدعِيها. وتُعَدُّ الجماعةُ طائفةً أصلًا، أَيْ جزءًا مِن كُلّ، لكنّ الطائفيةَ ناتجةٌ مِنْ أنَّ هذا الكُلَّ الجديدَ مختلِفٌ تاريخيًّا، وينافِسُ الجماعاتِ المحلّيةَ في مَدِّ خطوطِ الانتماءِ إليه ومَساراتِه التي تُمكِّنُه الحداثةُ منها، مثلَ التعليمِ الرسمي، والخِدمةِ العسكريةِ، وخدَماتِ الدولة، ووسائلِ الاتصالِ الحديثةِ التي تصِلُ الدولةَ مباشرةً بالفرد. أمَّا في الماضي، فلَمْ يُمكِن الكيانيةَ السياسيةَ الإمبراطوريةَ التواصلُ مباشرةً مع القواعدِ البشريةِ المشكِّلةِ للجماعاتِ الأهليةِ، ولا حتّى على مستوَى الوِلاية. مِن ناحيةٍ أخرى، إذا كان الكُلُّ هو الأمّةُ الإسلاميّةُ، أو مجموعُ المِلّةِ كمَا كانَتْ تُسمَّى في مرحلةٍ تاريخيّةٍ سابقةٍ، فلا يمكِنُ عَدُّ المسيحيِّينَ واليهودِ طوائفَ داخلَها؛ لأنَّهم ليسوا جُزءًا من كُلٍّ أصْلًا، بَلْ همْ “أهلُ ذِمّة”، وهو مصطلَحٌ قابلٌ للتفسيرِ إيجابيًّا وسلبيًّا، بحسَبِ المرحلةِ السياسيةِ من الناحيةِ المعياريةِ، لكنّه بوصفِه مفهومًا فقهيًّا أصليًّا هو رَمْيٌ لأهلِ الذِّمّةِ خارجَها. أمَّا إذا كان تعريفُ الكُلِّ قد اختلفَ وأصبحَ مرجعُه اللغةَ والثّقافةَ أو الدّولةَ الوطنيّةَ التي يُفترَضُ أنَّ المواطنةَ وحدتُها الأساسيّةُ أو غيْرُ ذلكَ، يصبحُ هؤلاء طوائفَ… وقد يصبِحُ المسلمون طائفةً، أو ينقسِمون إلى طوائفَ في سياقِ الصّراعِ على هذا الكُلّ. ولأنَّ الكُلَّ في الفكرِ القومي، أو الوطني، هو مرجعُ الشرعيّةِ الجديدُ، سواءٌ أكانَ أمّةً قوميّةً أم دولةً، يصبحُ الانتماءُ له مِعياريًّا، ويصبحُ تقسيمُه أمرًا مَرْذولًا، فهو بحُكْمِ تعريفِه مَسٌّ بالوحدةِ الوطنيّة. وحتّى عندَما يختلِطُ الفكرُ القومي، أو الوطني، بالليبراليّةِ أو بالديمقراطيّةِ الأهليّة، ويصبحُ التنوّعُ داخلَها أمرًا مشروعًا، وحتّى مرغوبًا، يَبْقَى التعصّبُ له وتحويلُه إلى سياساتِ هُويّة أمرًا غيرَ مَحمودٍ على المستويين القِيَمي والسياسي. ولِهذا الحُكمِ المِعياري أَساسٌ في التحليلِ النّظري، يتلَخّصُ في أَنَّ تقسيمَ المجتمعِ إلى طوائفَ ذاتِ حدودٍ مرسومةٍ سلَفًا، يختلفُ عن تعدّديةِ التيّاراتِ السياسيةِ والفكريةِ والأحزابِ، وهي تعدديةٌ متغيِّرةٌ ومتبَدِّلة. وإذَا حَلَّ هذا التقسيمُ محَلَّ تنوُّعِ الآراءِ والبرامجِ في صَوْغِ مصلحةِ المجموعِ، تُصبحُ التعدديّةُ الطائفيّةُ عدُوًّا للتعدديّةِ الفِكريّةِ والحزبيّة، وتُصبحُ الطائفيّةُ خصْمًا للتعدديّةِ السياسيّةِ وللديمقراطيّة. هذا عَدا أنَّها تَقمَعُ حرّيةَ الاختيارِ الفردي؛ باختِزالِها الفردَ إلى تابِعٍ لِطائفة. بإمكاني التوَسّعُ أكثرَ في هذا الموضوع، ولكنّي أَرى أنَّ الأمرَ غيرُ مُتاحٍ في محاضرتي القصيرةِ هذه، وسوف أَفعلُ ذلك في الدراسةِ المنشورة. وأختمُ هذا البندَ بالذاتِ، بالقولِ إنَّه لوْ لَمْ نَكُنْ نعرِفُ بوثوقٍ تامٍّ عَلاقةَ الاستعمارِ بنُشوءِ الطائفيّةِ السياسيّةِ التحاصصيةِ في بلادِنا، وتحويلِ المِلَلِ العثمانيّةِ إلى طوائفَ سياسيةٍ تبرِّرُ تدخُّلَ الأجنبي، ومُواصلةِ ذلك في أثناءَ الانتدابِ على بلادِنا في المشرقِ العربيّ في تلكَ المراحلِ، وقيامِ متصرفيّةِ جبل لبنان قبْلَها على أساسِ هذه المحاصَصةِ الطائفيةِ البوَاحِ المحدَّدةِ الحِصصِ والتمثيل، لَكانَ بإمكانِنا الاستعانةُ بالنظريةِ للتأمُّلِ في معنى الطائفيّةِ، ونُفورِها من الرابطِ الوطني أو القومي الجامعِ، وتجاوُزِه إلى التعاوُنِ مع خصومِه الدوليِّين، وإعاقةِ تكوُّنِه، ولا سِيَّما في مراحلِ نُشوئِه. لَقدْ كانت ذاتَ جذورٍ تاريخيةٍ، لكنَّ الطائفيةَ السياسيةَ، بمعناها المعاصر، وليدةُ تفاعُلِ المنظومةِ الاجتماعيةِ القائمةِ معَ الاستعمارِ الحديثِ، وطريقةِ بنائِه الدولةَ التي ستَرِثُها الدولةُ الوطنيةُ المستقلّةُ، أو ستَصطدِمُ بها بعدَه. ولا شكَّ، في نفسي وعقلي، أنَّ المسارَيْنِ التاريخيَّيْنِ النقيضَيْنِ لتَشكُّلِ الطائفيّةِ السياسيةِ في بلادِنا كانَا نُهوضَ العروبةِ، أَوْ ربّما الهُويةَ العربيةَ بالمعنى الثقافي السياسي، قبلَ التحوُّلِ إلى القوميّةِ الأيديولوجيةِ والسياسيّةِ التبريريّةِ السُّلطويةِ لأنظمةِ الحُكم؛ والدّولةَ الوطنيّةَ وبِناءَ المؤسّساتِ الوطنيّةِ التي تختَرِقُ الجماعاتِ المحليّةَ الأهليّةَ. وليس مصادفةً أنَّ المسارَيْنِ في أماكنِ التقائِهِما أو تقاطُعِهِما، أو حتّى افتراقِهما قَدْ شكَّلَا مَصدرًا لا ينضبُ للأفكارِ النهضويّةِ والإبداعِ الأدبي والفنِّي، ولمظاهرَ مدنيّةٍ عابرةٍ للطوائف، تثيرُ في بعضِنا الحَنينَ، وغالبًا ما تُعَنْوَنُ بتَسمياتٍ لا تَتوخَّى الدقَّةَ؛ مثلَ المرحلةِ الليبراليّةِ، والمرحلةِ القوميّة، وحتى “الزمن الجميل”، وغيرِ ذلك. ولَمْ يُثبِتْ لَنا أحدٌ من المشكِّكينَ في تعارُضِ هذَيْنِ المَسارَيْنِ مع الطائفيةِ حتّى الآن أنَّ الإنسانيّةَ اكتشفَتْ بديلًا عن الثقافةِ القوميّةِ الجامعةِ، وأساسُها اللغةُ المشترَكةُ، والدّولةِ الوطنيّةِ وقوامُها المواطنةُ، بِما فيها الحقوقُ السياسيةُ والاجتماعيةُ، بوصفِها أدواتٍ في الاندماجِ، تخترِقُ انقسامَ المجتمعِ إلى جماعاتٍ عشائريةٍ أو جهويّةٍ، أو طوائفَ تبعيةٍ دينيّةٍ ومذهبيّةٍ، تُدارُ علاقاتُها بالتعايُشِ والاحتِرابِ، وقد تتحوَّلُ إلى أساسٍ للصِّراعاتِ السياسية. والمُلفِتُ أنَّ خُصومَ العربيةِ والعُروبةِ يُعجَبون بالرابطِ القومي الثقافي وحتّى السياسي عندَ الآخَرين… ومِنْ غرائبِ العصرِ أَنْ ينقسِمَ العربُ العراقيّونَ إلى طوائفَ، في حينِ يُصِرُّ الأكرادُ في العراقِ نفسِه على تشكُّلِهم القومي الكُردي المتجاوِزِ للوطنيَّةِ العراقية. وفي الحالةِ السوريّةِ، كان الأكاديمي والمناضِلُ الوطني السوري العضوُ الدائمُ في الكُتلةِ الوطنيةِ السوريةِ، إدمون رباط، يوضحُ، منذُ عشرينيّاتِ القرنِ العشرين، للجميعِ أَنَّ سورية دونَ العروبةِ هيَ طوائفُ وأقلّياتٌ، وأَنَّ العروبةَ هيَ طريقُ بنائِها كدَوْلة. هذا واضحٌ بالنّسبةِ إلَيَّ أكثرَ مِن أَيِّ وقتٍ مَضى، وسبقَ أَنْ خصَّصتُ له كتابًا كاملًا هو “المسألةُ العربية”. قَدْ يُقالُ لي إنَّ الحَلَّ هو الديمقراطيّةُ والليبرالية وحقوقُ المواطِن. وأقولُ لا أتحدَّثُ عن الحُلولِ، بَلْ عن السِّياقِ التاريخي، والأُطرِ التي تُصبحُ فيها هذه حُلولًا ممْكِنةً؛ فالديمقراطيّةُ والليبراليّةُ كلٌّ على حِدَة، ولِقاؤُهما سويّةً في الديمقراطيّةِ الليبراليّة غيْرُ ممكِنٍ خارجَ سياقِ الثّقافةِ التي تَجمعُ الناسَ، وتَبْنِي “نحن” عابرةً للجماعاتِ المحليّةِ والطوائف، تُتيحُ التعدّدَ داخلَها بدَلَ الانشطارِ في حروبٍ أهليّة؛ ولا خارجَ الدّولةِ الوطنيّةِ الحديثةِ، وأساسُها المُواطنة. وأَيُّ بحثٍ جدِّي عن صعودِ الطائفيّةِ السياسيةِ في منطقتِنا لا بُدَّ أَنْ ينتهيَ بسَطرٍ أخيرٍ طويلٍ عريضٍ، هو أنّ الطائفيّةَ السياسيّةَ رَفَعَتْ رأسَها في بلادِنا، وازدَهرَتْ معَ فَشلِ هذَيْنِ المَسارَيْن في العقودِ الخمسةِ أو الستّةِ الأخيرة. ويَبدو أنَّ العروبةَ – وأَرغبُ في الإلحاحِ هنا على ذلك – ليستْ نقيضَ الدولةِ الوطنيةِ في المشرقِ العربي، بل هي من أُسسِ وِحدتِها، وأَنَّ بديلَها هو التمزُّقُ الطائفي، بَلْ والاجتماعي والمناطقي، وليس الوطنيّة. فالعروبةُ والوطنيةُ مُتكامِلان. ليست القوميةُ العربيةُ هي التي قَوَّضت الوطنيةَ في المشرِقِ العربي بَل الاستبدادُ الذي استَخدمَ الأيديولوجيةَ السياسيةَ القوميةَ لخِدمةِ سَيطرتِه ونُظُمِه السياسيةِ، وفَرَضَها على العربِ وغيرِ العربِ، وأجَّجَ الطائفيةَ، ومَنَعَ تكوُّنَ المواطَنةِ، بوصفِها انتماءً للدولة، ومركبًا حقوقيًّا لا يُجبَرُ الفردُ على المرورِ عبْرَ الطائفةِ أو العشيرةِ أو الولاءِ للسُّلطانِ لمُمارستِه. وما الأدبياتُ العربيةُ التي يمكنُ تصنيفُها نقديةً إلَّا سيْلٌ مِن معالجاتٍ لا تتوقَّفُ، بتسمياتٍ مختلفةٍ لِفشَلِ هذَيْنِ المسارَيْن. ولَنْ أتطرّقَ هنا إليها. ولكنّي أتوقَّفُ عندَ ملاحظتيْنِ، أراهُما مهمّتَيْن: أُولاهُما، إنَّ القوميةَ العربيةَ على الرغم من عُبورِها الطوائفَ، وتبنِّيها خطابًا يسمِّيهِ بعضُهم علمانيًّا بهذا المعنى الفريد، كمُضادٍّ للطائفيةِ بالدولة (وهو ليس المعنى الصحيح تاريخيًّا ومفهوميًّا للعلمانية)، فهي غالبًا ما تملّقَت التديُّنَ الشعبيَّ (وهو نمطُ التديُّنِ الأكثرُ عُرضةً للتطيِيف)، واتّخذتْ مواقِفَ ضِدَّ الأقلّياتِ الدينيةِ، ولا سِيَّما في أثناءَ صراعِها مع الإسلامِ السياسي، أوْ ارتكزَتْ إلى أقلّياتٍ طائفيةٍ، ولا سِيَّما في حالةِ حَمْلِها أيديولوجيةً تبريريةً، بواسطةِ العسكرِ الذين تحدَّرُوا مِن الرّيف، واستنَدُوا إلى قواعِدِهم الاجتماعيةِ فيه، وهُمْ في الحُكْم. ولَمْ يَكْتفِ عديدٌ من مثقَّفِي الاستبدادِ العربِ بهذا، بل عَدُّوا تأييدَ الاستنادِ إلى طائفةِ الأقلّيةِ علمانيةً، ونَقْدَها تجاوزًا للعلمانيّة. لقَد أصبحَتْ طائفيةُ الأقلياتِ تُعَدُّ علمانيّةً، أمَّا تحيِيدُ الدولةِ في الشأْنِ الدينيّ فلَمْ يَلْقَ الاهتمامَ اللازِمَ، ولا سِيّما أنَّ العلمانيةً غالِبًا ما تَعْنِي في عُرفِهم تقديسَ المستبِدِّ ودولةِ الاستِبْداد. وفي المقابِلِ، وقَعَ عديدٌ مِنْ مُناهِضي الاستبدادِ في وَهْمِ الاستغناءِ عن الديمقراطيةِ، وشَرطِها الأساس حكْمِ القانون، والمساواةِ أمامَ القانون، والحقوقِ المدنية، والاستعاضةِ عنها بطائفيةِ الأغلبية، بوصفِها من أشكالِ الديمقراطيةِ التي أصبحَتْ مثلَ جرابِ الكردي، مع الاحترامِ للأكراد. وثانيتُهما، إنَّ الدولةَ الوطنيةَ فشِلَتْ في بناءِ الأُمّةِ المواطنيةِ، لأسبابٍ عديدةٍ تَفاوتَتْ بينَ الديكتاتورياتِ العسكريةِ التي حمَلَتْ غالبًا أيديولوجيةً قوميةً عربيةً، والأنظمةِ الملَكيةِ التقليديةِ، واشتركَتْ في الاعتمادِ على الولاءِ للحكمِ أساسًا للامتيازاتِ من جهةٍ، والقمْعِ من جهةٍ أخرى، وليس على المواطنةِ أساسًا للحقوق.