كلنا سوريون: بسخريته المبدعة يفسّر لنا عزيز نيسن على لسان أحد الحمير كيف تغيّرت لغتهم الجميلة الغنية ذات الجرس الموسيقي الجذاب، إلى لغة النهيق؟ فقد كان حمار هرم يلهو وحده في الغابة، ويغني بعض الأغاني بلغة الحمير، ويأكل الأعشاب الطرية. تناهت إلى منخريه رائحة ذئب قادم من بعيد، فرفع رأسه عالياً، وعبّ الهواء ملء رئتيه، وقال: لا يوجد رائحة ذئب. لكن الرائحة أخذت تزداد كلما دنا الذئب أكثر، غير أن الحمار طمأن نفسه: “إن شاء الله ليس ذئباً. ولمَ يكون ذئباً! ومن أين سيأتي الذئب”؟ وهكذا ظل الحمار الهرم يخدع نفسه حتى بات يسمع صوت الذئب. تحركت أذناه، وخفق قلبه، وارتجفت عيناه، غير أنه كذّب أذنيه وقال: “إن شاء الله إنه ليس ذئباً”. وعندما حدّق عالياً صوب الجبل رأى ذئباً مندفعاً مخلفاً وراءه سحباً من الغبار. “آه إنه ذئب! قد يخيّل لي ما أراه أنه ذئب! ربما هو حلم؟ أتمنى ألا يكون ما أراه ذئباً. إن شاء الله لن يكون كذلك. يبدو أن الوهن أصاب عيني حتى بتُّ أرى هذا الشيء ذئباً قادماً”.
تقلصت المسافة بينه وبين الذئب حتى أصبحت خمسين متراً، فطمأن الحمار نفسه: “إن شاء الله لن يكون ما أراه وأسمع صوته وأشم رائحته ذئباً. قد يكون حملاً أو فيلاً، أو أي شيء آخر”.
مع اقتراب الذئب الفاغر فاه بدأ الحمار يبتعد قليلاً، وزاد من سرعته حتى ارتطمت ساقاه ببطنه، ومع ذلك استمر في خداع نفسه قائلاً: “حتى لو كان الذي أراه ذئباً فهو ليس كذلك. إن شاء الله لن يكون كذلك”.
شعر الحمار بأنف الذئب يلامس ظهره المبلل فحاول الركض أكثر، لكنه لم يستطع، لأن قواه خانته، وأصبح عاجزاً عن الحركة تحت ثقل الذئب، ولكي لا يراه أغلق عينيه وقال: “أعرف تماماً أنك لست ذئباً. لا تدغدغ مؤخرتي. إني لا أحب مزاح اليد”. غرز الذئب الجائع أسنانه في ظهر الحمار الهرم، ونهش قطعة كبيرة، ومن حلاوة الروح، كما يقولون، ارتبط لسان الحمار، ونسي لغته.
“آه إنه ذئب آه! هو آه هو”! تابع الذئب النهش من لحم الحمار الهرم ذي اللسان المربوط الذي لا يصدر منه سوى: “آه هو. هاق . هاق”.
ويختم الحمار الراوي: منذ ذلك اليوم نسي الحمير لغتهم، ولم يستطيعوا التعبير عن رغباتهم وأفكارهم بل وحتى عواطفهم إلا بالنهيق. ولو أنّ ذلك الحمار لم يخدع نفسه لكنّا نجيد الحديث بلغتنا إلى الآن، ولكن ماذا أقول: آه منّا نحن معشر الحمير!
ولو مدّ الله في عمر الحمار الراوي إلى اليوم، وكان شاهداً على العصر السوري، لقال أيضاً: آهٍ منكم معشر المؤيدين! فقد سبقتم حمارنا في تكذيب أنفه وشمه، وأذنيه وسمعه، وعينيه وبصره، بدءاً من أسمح شيخ، وأنيف مطران، ومروراً بأعظم أديب وأهم مثقف، وانتهاء بأحقر تاجر وأتفه سياسي، إن وُجد سياسي واحد في ربوع هذا البلد.
وكما قصّ علينا حمارنا الراوي كيف نسي الحمير لغتهم وباتوا مجرد ناهقين، فلن أستغرب أن يقص علينا مؤيد ما في لحظة من لحظات الصدق السامي كيف أنهم كانوا يعدّون أنفسهم من مخلوقات النظام ترعى في برسيمه، وكيف أنهم كانوا قبل ذلك يملكون لغة غنية ثرية ذات جرس لطيف حسن، وأنّ هذه اللغة نسوها أيضاً جرّاء تكذيبهم لحواسهم وأنفسهم.
سوف يحدثنا: كيف انتشرت الرائحة المزكمة (للنظام) منذ أول اعتقال وتعذيب لأوائل المتظاهرين السلميين، ومنذ أول رصاصة اخترقت صدورهم، ولكنهم لم يشموا هذه الرائحة الزنخة المنتشرة!
وكيف صعقت أصوات الجريمة التي فاقت كل تصور، مَنْ في الخافقين غير أنهم تصامّوا عنها فلم يسمعوا هذه الأصوات المجلجلة!
وكيف تجلت أمام ناظريهم المذبحة التي طبّقت الآفاق في انتشارها، والتي لم تشهد البشرية لها مثيلاً، فتعاموا عنها ولم يروها!
لكنه سيحدثنا أيضاً كيف كان المؤيد في اللحظة ذاتها، عندما يتعلق الأمر بالثورة ورجالها، يسابق الكلاب البوليسية في شمها، والغواصات النووية في رهافة سمع مسباراتها، والمراكز الفلكية في الرؤية المغرقة في البعد لتلكسوباتها، والمخابر الطبية في دقة رؤية مجهراتها.
وسيحدثنا عن المؤيد باعتباراته الثلاثة: التذبذب، والتسويغ، والأمل.
فهو الكائن المتذبذب والمتنقل دائماً في الرؤية والموقف تبعاً لتغيّرات النظام الدائمة.
وهو الكائن المسوّغ للنظام حتى في المصائب التي تترى عليه وتناله شخصياً، أو تنال أهل بيته أو أقربائه أو أصدقائه أوجيرانه أو معارفه، فيقوم بتأويلها المرة تلو الأخرى على أنها ضرورية ومعقولة، بل ولائقة بأفضل العوالم الممكنة.
وهو الكائن المفعم بالأمل المعقود بأصابع النظام حصراً! وما سوى ذلك فإن التفاؤل لا يعرف إلى قلبه سبيلاً. يقول ستيفان تسبايغ عن النازيين: “كان أرباب النظام يمدوننا دائماً بذلك التفاؤل الرخيص. تفاؤل العرّاف الذي لا ضمير له، والذين يمدون في أجل المذبحة، إذ يعدون بالنصر من دون عوائق”.
أليس هذا هو نظامك السوري بعينه أيها المؤيد! أولستَ أنت ذلك المصدّق الآمل، والمكذّب المتفائل؟! فلتذكر إذن أنه كان لك في يوم ما لغة، وأنك بتّ الآن بدونها.