صفقة الكومبرادور الأخيرة

بقلم :محمد حسن كيوان

الكومبرادور هي كلمة اسبانية أو برتغالية تعني الشاري و كانت تطلق إبان العصر الاستعماري في جنوب شرق آسيا على فئة من السكان المحليين كانت تعمل كوسطاء بين التجار الأوروبيين والسوق المحلي. كانىته   دور الكومبرادور هؤلاء يشمل تأمين مصالح صاحب العمل الأوروبي و شراء كل ما يلزمه من سلع (شاي, حرير قطن…).

لاحقاً , في القرن العشرين,  أطلقت الأدبيات الماركسية صفة “بورجوازية الكومبرادور”  على طبقة من البرجوازية التي تضطلع بدور يقتصر على التوسط بين رأس المال الأجنبي و بين السوق المحلية. بسبب اعتمادها الكامل على رأس المال الأجنبي, تتعارض مصالح هذه الفئة مع “البرجوازية الوطنية”. فيما تلتفت الثانية لتطوير السوق المحلي و ادخاله في عصر التصنيع و السعي لتحقيق انفتاح سياسي يعيد رسم علاقات النفوذ السياسي بما يضمن تحقيق شيء من التطور, تسعى الأولى إلى تكريس اعتماد الاقتصاد المحلي على المستثمر الأجنبي و إعاقة أي مبادرات اقتصادية أو سياسية تقوض هذه التبعية.
الكلام أعلاه يتناول مصطلح كومبرادور, أما الحديث عن “الممانعة ” فلا يحتاج الشرح أولاً لأن سياسات نظام الممانعة السوري تشرح المصطلح و ثانياً لأن الغالب أن أصول هذا المصطلح تعود به إلى كتب الفيزياء و الهندسة الكهربائية قبل أن تخرجه منها عبقرية المعجم اللغوي البعثي.
في السياق السوري, كانت أحزاب اليسار السورية في السبعينيات تصف السياسة الخارجية لنظام حافظ الأسد  بالكومبرادورية السياسية. في الحالة التجارية, كان الكومبرادور الصيني يسعى لتحقيق هدفين الأول طبعاً هو الربح السريع و الثاني هو إرضاء رأس مال الأوربي لضمان استمرار العملية بغض النظر عن حاجات السوق المحلية و مصالح اليد العاملة المحلية.   المعادل السياسي لهذين الهدفين في حالة نظام حافظ الأسد هو اولاً العمل على ديمومة النظام بغض النظر عن المصالح الوطنية الإستراتيجية و ثانياً تحقيق الخدمات التي يطلبها الخارج لضمان استمرار تعامل الخارج مع النظام.
رغم نشأته الفلاحية, إلا أن حافظ الأسد فهم هذه اللعبة مبكراً و أعتمد ما سماه “بالبراغماتية” كأحدى أهم صفاته التي تميزه. بالنسبة للغرب , فإن “براغماتية” حافظ الأسد تجلت أول مرة في أداء الأسد اثناء حرب 1967 عندما كان وزيراً للدفاع. خلال الأيام الأربعة الأولى من حرب الأيام الستة, اكتفى وزير الدفاع حافظ الأسد بقصف روتيني خفيف على المستعمرات في سهل الحولة و لم يقم بأي هجوم بري مستغلاً انشغال الإسرائيليين بالحرب على الجبهة المصرية . بل الأسوأ من ذلك أن قيادة الجيش السوري لم تطلب إيقاف إطلاق النار في اليوم السابع من حزيران كما فعلت مصر، وإنما بقيت تنتظر أن يقوم الإسرائيليون بالهجوم، وهو ما حدث فعلاً في اليوم التاسع من حزيران.  و عندما قام الإسرائيليون بالهجوم على التحصينات السورية و اختراقها بدأت القيادة السورية بطلب وقف اطلاق النار تزامناً مع اصدار بيان سقوط القنيطرة الشهير و طلبها تنفيذ الانسحاب الكيفي رغم أن القنيطرة لم تكن قد سقطت بعد.
بعد ذلك بثلاث سنوات, تمكن حافظ الأسد من الحصول على المباركة الدولية لانقلابه العسكري بعد  صفقة عقدها مع السوفييت و الأميركيين تقتضي أن يزيح الاسد الإدارة السابقة الأكثر تصلباً و أن يمرر الاعتراف بقرار مجلس الأمن الدولي 242 و أن يرسي في دمشق نظاماً أكثر براغماتية و أكثر تفهماً و قدرة على تحقيق “طلبيات” الغرب و الشرق (2).
بينما كان الرئيس المصري يتحضر لكامب ديفيد مع الاسرائيليين, وقّع حافظ الأسد مع الأميركيين “كامب ديفيد” لبناني سمح له أن يصبح وكيلاً لهم في هذا البلد الذي كان يعاني حينها من الحرب الأهلية. الهدف الذي رسمه كيسنجر من هذا التدخل كان منع التحالف الفلسطيني اليساري من الانتصار, بينما سعى الأسد لتوسيع نفوذه السياسي (و توسيع دائرة النهب) في المنطقة و استغلال الورقة اللبنانية و تقوية موقف نظامه في المبازرات التي قد تحصل في المستقبل.  أبدى الإسرائيليون موقفاً إيجابياً من تدخل الأسد بشرط أن يحترم هذا الأخير شروط وزير الخارجية الإسرائيلي إيغال آلون التي نقلها في مذكرة إلى كيسنجر.  دخل الاسد إلى لبنان في حزيران 1976 بعد أن أبرم ما عرف باتفاق الضوء الأصفر مع الأميركيين و من ورائهم الاسرائيليين و تابع بشكل ملفت دفع الأجندة الأميركية التي أوكلت إليه: ضرب عرفات, و ضرب الحركة الوطنية اللبنانية (3 صفحة 514). لاحقاً بعد ثورة الخميني في إيران, تحول لبنان إلى مضمار تعاون عسكري بين الأسد و الإيرانيين و كان حزب الله (القوة التي تقف بلا هوادة مع الأسد الابن في الكارثة التي يتخبط فيها اليوم), هو الثمرة الاستراتيجية لهذا العمل المشترك. 
ربما تكون عملية “عاصفة الصحراء” الصفقة الأكثر نجاحاً التي عقدها  الأسد الأب مع الأميركيين, حاربت قوات الأسد في صف القوات الأميركية ضد نظام البعث العراقي بهدف إخراج  صدّام حسين من الكويت. أعطى وجود البعث السوري في هذه الحرب بعداً عربياً و غطاءً شرعياً. في مقابل ذلك كان مكسب الأسد مضاعفاً, تمكن من إضعاف غريمه التقليدي صدّام حسين بشكل كبير جداً و تمت إعادة تأهيله عربياً و دولياً بعد الأزمة التي عاشها في الثمانينات وأعطي تفويضاً مفتوحاً لترتيب الوضع اللبناني بالاشتراك مع السعوديين.
لم تعد هذه الصفقات على نظام  الأسد بالمردود السياسي فقط, بل أنها كانت رابحة جداً حتى عند النظر إلى المكاسب المالية المباشرة التي حققتها لطغمته الحاكمة فأحد الوظائف الأساسية لهذا النوع من “للملك”, كما يسميه ابن خلدون, هو تحصيل ما يكفي من الغنائم و الثروة التي تغدق على المقربين .
  بين عامي 1973 و 1980 حصل نظام الأسد على مساعدات من دول النفط العربي تقد بمليارات الدولارات بحجة أن سورية “دولة مواجهه”. أي أن “خسارة” الجولان لصالح إسرائيل كانت أكثر نفعاً بكثير بالنسبة للنظام  الذي تمكن استخدامها  أيضاً للحصول على شرعية “الصمود و التصدي” و استباحة البلد بحجة “معركة المصير” مع العدو الصهيوني  (4).
دخول الجيش السوري إلى لبنان عاد على الأسد بفوائد مادية ضخمة. عمل جيش من المهربين يقدرعددهم بـ 50 ألف مهرب  على تهريب الأرصدة السورية إلى لبنان و تهريب السلع الاستهلاكية من لبنان إلى سورية.و وفقاً لما نقله المؤرخ الكبير حنا بطاطو, فإن حجم هذه السوق السوداء المرعية من قبل رأس النظام وصل إلى ما يربو على 30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لسورية و أنها عرفت ازدهاراً كبيراً لدرجة حوّلت حوالي 10 آلاف من المهربين “المقربين” إلى مليونيرات بين ليلة و ضحاها (5 صفحة 212). هذا بالإضافة إلى ما تم استخراجه من لبنان عن طريق السرقة أو “البلص” اذا أردنا اعتماد المفردة العثمانية الأكثر التقاطاً لطبيعة ما جرى.
أما في ما يخص “عاصفة الصحراء” فقد تقاضى نظام الأسد ما يربو على  500 مليون دولار من المملكة العربية السعودية في الأشهر التي تلت الحرب و ما يزيد على ضعف هذا المبلغ في العالم التالي (6) بالإضافة إلى الهدايا القيمة من سيارات الدفع الرباعي الأميركية و غيرها من الهدايا التي نقلت إلى جنرالات الأسد الذين قادوا العملية.
هذا السلوك “الكومبرادوري” الذي اتسم به الأسد على الصعيد الخارجي لا يعني بالضرورة أن الغلبة التامة التي تمتع بها نظامه في الداخل السوري كانت ذات منشأ خارجي. العصبية  العشائرية الخلدونية التي ربطت أفراد طغمة الأسد الحاكمة و سيطرة التحالف  العائلي ـ العشائري على مفاتيح الجيش السوري و قوى الأمن كانت هي العامل المولد للسيطرة المطلقة التي فرضها  نظام حافظ الأسد على سورية. يضاف إليها العصبيات الثانوية التي تلعب دوراً مساعداً (حزب البعث,  الانتماء لجهاز الجيش أو المخابرات….
لذلك, و بينما كان النظام تسووياً و مستعداً  دائماً للانخراط في مختلف أنواع الصفقات مع الخارج, كانت و ظلت لغة الإخضاع هي اللغة الوحيدة التي يستطيع استخدامها في الداخل لأن العنف, كما يشرح الكاتب الفرنسي ميشيل سورا, هو المنهج الذي يمكن هذا النظام من إعادة توليد العصبية الحاكمة وتقوية أواصرها بشكل مستمر (7). هذا مثلاً ما يجعل حافظ الأسد قادراً  بكل “براغماتية” على ابتلاع قرار الكنيست الاسرائيلي بضم الجولان السوري المحتل ضماً نهائياً إلى الكيان الإسرائيلي في كانون الأول ديسمبر من عام 1981 فيما قامت القوات الخاصة و سرايا الدفاع, بعد ذلك بأسابيع, بقتل الآلاف من أهل مدينة حماة و هدم ثلث المدينة قصفاً و حرقاً بالمدفعية رداً على تمرد قام به ما لا يزيد على 500 متمرد  إسلامي مسلحين بأسلحة خفيفة. نفس طريقة العمل (Modus Operandi) هذه هي التي تجعل بشّار الأسد قادراً على الدخول بسهولة في مقايضات مع الغرب و الشرق تصل إلى التخلي عن “سلاح الردع الاستراتيجي” فيما كان عاجزاً عن تقديم تنازل بسيط للشعب الغاضب في حوران في آذار 2011 يوم كانت معاقبة عاطف نجيب تكفي ربما لتخطي الأزمة.
و بالنسبة  للقوى الخارجية في الشرق و الغرب, كانت هذه الاستقلالية النسبية التي يتمتع بها الأسد هي ما يجعله أكثر فعالية في لعب الدور الكومبرادوري و ذلك لأنه يستطيع التكسب السياسي و تمرير “طلبيات” الغرب مهما بلغت (ضرب  ياسر عرفات في لبنان و طرده من طرابلس مثلاً) دون أدنى ضجيج أو تشقق في بنيته العصبية الحاكمة و دون الحاجة لمراعاة الوضع السياسي الداخلي لأن الداخل غير محكوم بالـ “السياسة” أصلاً. عند أخذ هذه الصفة الاستثنائية بعين الاعتبار,  تبدو صفقات حسني مبارك مع الأميركيين و الإسرائيليين على أمل توريث ابنه جمال كشغل مبتدئين لا أكثر.
            من هذا المنظور, فإن “الصفقة الكيمائية” الجديدة التي دخل فيها بشار الأسد مع كيري و لافروف الأسبوع الماضي تبدو و كأنها محطة جديدة في تاريخ النظام السوري المليء بالصفقات المشابهة سيما و أن إعلام بشّار الاسد كان واضحاً في هذا الخصوص عندما تحدث عن تعاون نظام  الأسد مع الأميركيين و الروس في ما يخص  الملف الكيماوي بمقابل توقف أميركا عند دعم “الإرهابيين” و السماح للأسد بالتخلص منهم.  و لا بد أن الاسد نفسه يمني نفسه بصفقة كومبرادورية ناجحة كهذه يتخلى بموجبها عن السلاح “ذو الأهمية الاستراتيجية” لسورية مقابل أن يتفادى الضربة الأميركية و أن يعطى مزيداً من الوقت و الفرص لإعادة السيطرة على سورية و القضاء على الإعصار الذي يكاد يطيح بنظامه.
            و على ما يبدو فإن طريقة تجاوب أركان نظام الأسد و مؤيديه  و حلفائه مع هذه المناورة و تسليمهم لسلاح “الردع” دون أن يرف لهم جفن, توضح السبب الذي يجعل الغرب و الشرق يفضل هذا النظام على المعارضة. لأن أي فصيل من هذه الأخيرة و مهما بلغت به  الخيانة “البراغماتية” بمكان, فلن يملك  التماسك الداخلي و السيطرة الكافية  لتمرير أية صفقة سواء تعلقت بالجولان أو بالسلاح الكيماوي و لن يستطيع بتنفيذها من ألفها إلى يائها بجودة تضاهي ما يستطيع نظام الأسد أن يقدمه.
و لكن التغيرات السياسية التي تعصف بسورية منذ ثلاثة أعوام  و نصف و حتى اليوم تدل على أن حسابات بشار الأسد التجارية لا تلامس الواقع هذه المرة لأن يده الحديدية التي يعتمد عليها لقمع الداخل قد تآكلت و قوة العصبية التي أخضع فيها سورية قد استنفذت و أصبح استمرار حكم الغلبة يعتمد على مساعدة حلفاء النظام من حزب الله و الإيرانيين و الروس, وهذه, وفقاً لابن خلدون, هي الطريقة النمطية التي تودي بأي حكم عصبوي كالحكم  الذي بناه حافظ الأسد.  و المرجح أن “ديبلوماسية السارين” التي يضحك لها سن كيري و لافروف ونتنياهو لن تمكن الكومبرادور بشار الأسد إلا من شراء بعض الوقت يقتل فيه المزيد من السوريين المساكين و يتخلى فيه عن ما الكيماوي و ما بعد الكيماوي  قبل أن ينتهي إلى مصيره المحتوم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *