الجيش السوري الباسل , من “التفييش ” الى ” التعفيش “
بقلم:عبد القادر المنلا
ستغرب استغراب السوريين لظاهرة التعفيش التي تفشت لدى عناصر وضباط الجيش العربي السوري الممانع المقاوم، العقائدي، فتلك هي عقيدة هذا الجيش منذ أصبح تابعاً للأسد الذي أسسه على منطق السرقة واللصوصية ودرّبه ليكون بارعاً في معاداته للوطن والمواطن شرط أن يكون مخلصاً للأب القائد، ومتى تحققت هاتان الصفتان لدى خدم الملك السوري يحق له أن يترقى ويستلم المناصب التي يحلم بها وأن يتمتع بصلاحيات واسعة يمارسها على الشعب المقهور ليزيد في قهره ومعاناته ويصبح حماة الوطن هم من يخيف المواطن، كيف لا وهم لا يعرفون من الوطن إلاّ سيده الأسد، الأب سابقاً والابن لاحقاً.
التفييش امتياز أسدي مع ضمان حقوق الملكية الفكرية
ربما كان الجيش العربي السوري هو الوحيد بين جيوش العالم الذي امتاز بمزايا عديدة كان أهمها على مدار العقود الثلاثة المنصرمة – بالحد الأدنى- ظاهرة “التفييش”، مصطلح لا يعرفه سوى جيش الأسد وهو يعني لمن لا يعرف من غير السوريين بيع الخدمة العسكرية بمقابل شهري يصل إلى مرتب موظف يدفعه المجند الإجباري للضابط المسؤول عنه لقاء عودته إلى منزله وعمله فيما تحسب له الفترة من الخدمة الإلزامية، وكل السوريين يعرفون تلك الميزة العظيمة لجيش الأسد، وقد استطاع مئات الآلاف من المطلوبين المقتدرين أن يتخلصوا من عبئ ما يسمى خدمة العلم عبر هذه التقنية مشاركين ضباط الجيش في فسادهم وبيعهم للوطن، ولكن الحقيقة العميقة تتجلى في إدراك أولئك الشباب أن الخدمة الإلزامية التي يسميها النظام خدمة العلم ما هي في الحقيقة سوى خدمة الضباط وعائلاتهم ومزارعهم واستنزاف وقت الشباب السوري وحرقه فيما لا طائل منه ولا نتيجة له لأنهم يدركون تماماً أن سنوات الخدمة لا تصب في مصلحة الوطن بل في مصلحة حفنة من الضباط توافقوا على فكرة “استعباد” المواطن وتحميل تبعية ذلك الاستعباد للوطن ولضريبة الدم.
التطوع في الجيش مشروع استثماري!
وفي الواقع فإن الاتجاه للتطوع في هذا الجيش لم يكن يمثل هماً وطنياً أو عسكرياً للنسبة العظمى ممن تطوعوا، فهم يمثل لهم حالة استثمار قصوى حيث هنالك الكثير من المغريات: بيت، سيارة، سلطة، نفوذ..الخ، والأهم من ذلك كله هو “البراني”، فمعظم ضباط الجيش السوري يحسبون المغانم والمكاسب فلديهم الكثير من راغبي دفع المرتب الشهري “التفييش”، أما من لم يفيش فعليه تقديم الكثير من الهدايا التي يجبره الضباط على الالتزام بها وإلاّ فهو سيواجه الاضطهاد المذلة والسجن بلا ذنب والحرمان من الإجازة، فالصابون والزعتر من حلب والزيت من إدلب، والألبان والأجبان من دير الزور والرقة، والدخان والمتة من كافة المحافظات باعتبارها متوفرة في أرجاء سورية، فضلاً عن سرقة مستحقات الجندي من الطعام والفاكهة واللباس والعتاد، إضافة إلى سرقة مستودعات البنزين والمازوت وخلافه، وكل تلك تمثل مغريات للكثيرين من غير الوطنيين للتطوع بالجيش ضمن حسبة دقيقة تحصي المكاسب وتدرس بدقة إمكانية الثراء السريع ولا شيء غير ذلك، وبالطبع لا يسري مفعول تلك الوصفة على كل من هب ودب، بل ثمة مواصفات محددة للضباط القادرين على مزاولة كل تلك الموبقات.
فساد مقنن ومعترف به من القيادة
المشكلة الأساسية التي يمكن الوقوف عليها في هذا الإطار هي أن كل ما يمارسه ضباط الجيش من هذا الفساد غير المسبوق والمبتكر بجدارة في سورية الأسد هي أنها لم تكن حالة فساد ضيقة أو متوارية، بل هي عرف أصبح معمولاً به كما القانون، فضلاً عن أنه يمارس ملء سمع القيادات السياسية والعسكرية وبصرها وعلى أعلى مستوى، ولا يظنن احد أن مؤسسة الرئاسة نفسها لا تعرف تفاصيلها وبدقة ولكنها لم تكن فقط تغض الطرف عنها، بل وتباركها وتشجعها لأنها تحقق مجموعة من الأهداف دفعة واحدة، أولها ضمان حالة فساد غير مسبوق وخيانة وطنية عظمى لدى الضباط مثبتة عليهم بالأدلة التي يمكن أن تستخدم ضدهم فقط فيما لو تجرؤا على اتخاذ أي موقف مضاد لسيد الوطن، وثانيها أنها تضمن حالة من الولاء للجيش بصفته نوعاً من “البزنس” الوطني، وثالثها أنها تؤمن مصادر دخل وثراء للضباط ورجال الأمن يحمل جزءاً كبيراً من الهم عن “الدولة”، بحيث يحقق الضابط رفاهيته تلقائياً ودون مطالبة الدولة بمخصصات إضافية قد تقلل من دخل المتنفذين الكبار وتؤثر على مصالحهم، ورابعها وأهمها: تمييع الهم الوطني وتمييع حالة العداء مع إسرائيل وتحديداً في قضية الجولان، فالضباط الذين حققوا مستوى من الرفاهية مع هذا الكم الكبير من الفساد لن يعول عليهم لاحقاً بتعريض مصالحهم للخطر في سبيل قضية وطنية بعد أن كسبوا الحالة الشخصية.
البدل الوهمي من رئيس شعبة التجنيد إلى وزير الدفاع
ومن أهم الظواهر التي تفشّت لدى الجيش السوري وقياداته هي قبول دفع البدل بالنسبة للمغتربين، غير أن ألوفاً مؤلفة ممن لم يغادروا البلد استطاعوا الاستفادة من هذه الخدمة عبر السماسرة الذين انتشروا على امتداد الوطن وخارجه أيضاً لتأمين ملفات اغتراب مزورة ولكنها موثقة بطريقة قانونية تماماً، وهنا لا بد من الإشارة إلى شبكات السمسرة العابرة للحدود السورية والقابعة تحديداً في بيروت حيث زرع نظام الأسد عملاء له لتوفير هذه الخدمة المكلفة والمرهقة مادياً بالنسبة لطالب دفع البدل، فهم يوفرون له ملفاً متكاملاً شاملاً سنوات الاغتراب لقاء بدل نقدي يتجاوز أضعاف ما يدفع في تسديد البدل الرسمي للمغترب الحقيقي، وهو باب رزق أوسع لكبار الضباط الفاسدين، وهذه العملية كانت تراتبية بامتياز حيث تعم الفائدة بدءأ من رؤساء شعبة التجنيد وصولاً إلى رئيس الأركان ووزير الدفاع، ومعظم من قام بهذه العملية من المطلوبين لخدمة العلم أولئك المتأخرون الذي تجاوزا الأربعين وفضلوا دفع دم قلبهم على الإهانة الكبرى التي يعلمون أنها بانتظارهم في الخدمة الإلزامية، ومن هنا نعرف لماذا ظل المكلف مطلوباً حتى سن الثانية والخمسين، وخفضت قبل سنتين من الثورة إلى سن الثانية والأربعين بعد جني أموال طائلة ممن كانت ظروفهم لا تسمح لهم بالالتحاق بالخدمة..وإذا تأملنا اليوم عدد الضباط المنشقين عن الجيش لوجدناهم قلة نظراً لانتصار من لم ينشق لمصالحه ومكتسباته التي درج عليها عقوداً طويلة، فيما آثر الشرفاء الانشقاق خاصة حينما أثبت لمن لم يكن يعي جيداً مهمة الجيش أنه جيش لا علاقة له بالوطن ولا بالوطنية.
الجيش الباسل اليوم، وهو يمارس مهنة التعفيش، لا يختلف عنه حينما كان يمارس مهنة التفييش وغيرها من ظواهر الفساد المختلفة تعويضاً عن مكتسباته التي خسرها أثناء الثورة، وكما شجعت القيادة السياسية والعسكرية كل أنواع اللصوصية التي مارسها ضباطها وعناصرها على مدار عقود، فإنها اليوم تبارك مهمة “التعفيش” بل وربما تبحث عن متشابهات تُغرق بها جيشها الباسل من أجل توريطه أكثر بكراهية الوطن والالتفاف حول سيد الوطن الذي دمره من خلال هذا الجيش المرتزق ذاته.
تاريخ التعفيش والتطفيش في سوريا
عبد السلام الشبلي
في قراءة سريعة لعقلية حماة الديارة الأسدية ،التي برمجها نظام الأسد لنحو خمسين عاما ، سنحصل على نتيجة مفادها ،أن ما جرى في مدينة حمص قبل أيام ،وما سيجري في أي منطقة ربما تصل إلى الوضع الذي وصلت إليه هذه المدينة ،أمر طبيعا جدا.
فالنظام الذي قام على سرقة السلطة، وكنس كل من يعادي إرادة الأسد الأب حتى أقرب المقربين، لايمكن أن يبني جيشا إلا كما بنا سلطة أساسها الإقصاء ،وهدفها السيطرة على مقدرات البلاد ،من أقلها إلى أكثرها.
قبل خمسة وثلاثين عاما، ولد في سوريا جيش مصغر سمي بـسرايا الدفاع، كان له الكثير من المزايا ،إثر تزعمه من قبل رفعت الأسد، شقيق رأس السلطة حافظ.
و لأن رفعت كان يحب البذخ و المفاخرة كما يروى عنه مرارا، مد يده في جيوب الشعب السوري، فمنح عناصر مليشيا سرايا الدفاع ما يريدون من أراض ليعمروا بيوتهم فيها بدمشق وتحديدا في حي المزة، الذي عرف في ما بعد بأسماء متعددة ” كالمزة (86) و المزة خزان والمدرسة “.
عُفّشت الأراضي هناك، وطُفّش أهلها بسياسة هدفت إلى إقامة مستوطنة أسدية ” رفعاوية ” بعيدا عن المسمى الطائفي لها ،لتكون عين الرقيب على مواطني دمشق، والكماشة المطبقة على قلوب السوريين هناك.
غادر رفعت ، بعد أن طفّشه أخوه بسياسة معاكسة، لأنه أراد أن يعفّش سوريا لمصلحته الشخصية ، وفكر مع مرض حافظ، أن سيصبح السيد الأول للبلاد، فكان الإقصاء الأخوي، بعد أن منحه حافظ الأسد عفّشَ الخزينة السورية كاملا، يزيد فوقها هبة قذافي ليبيا لشقيقه في الاستبداد حافظ، لأن رفعت وجد نفسه ذا أحقية بكل ما تملكه سورية، بعد جهوده في تعفيش أهالي حماة وتطفيشهم من مدينتهم، في خدمة لأخيه الذي سلمه المدينة، فأعادها إليه مدمرة و منهوبة، فاقدة لأكثر من ثلاثين ألفا من أبنائها.
لم تنتهي هذه السياسة هنا، فهناك في لبنان كانت العملية أوسع بالنسبة لعناصر النظام المعدمين ، فبيروت كانت محطة التعفيش الرفاهي بالنسبة لهم.
سرقوا،أكلوا ،شربوا، واستباحوا الأعراض وعربدوا ، حتى أصبحت المدينة خرابا على يد من قال أنه سيدخل منهيا الصراع فيها فزاده من أجل مصالحه، ومصالح طغمته التي خلقت كرها عميقا بين شعبي البلدين، قائما على نظرية الاحتلال التي طبقها الأسد بحذافيرها في تلك البلاد.
ويألف ضباط جيش النظام البرمجة الجديدة ،فتمتد عملية التعّفيش إلى جيوب العساكر السوريين ، ممن ألزموا بالخدمة في جيش ” الوطن “، فدرجت تجارة العساكر السورية، والتي تبدأ مع أول يوم للمواطن السوري في داخل شعبة التجنيد، مع مقابلة أول موظف يتبع النظام.
خمسون ليرة لتمر المعاملة سريعا، ثلاث ألاف ليرة لتأجل الخدمة ستة أشهر، 10 آلاف لتأجيل سنة لغير الدارسين، 25 آلفا للحصول على الخدمات الثابتة، التي تمنحك الاعفاء من العسكرية .
و إذا كان عليك أن تخدم الوطن، فلا عليك أيها المواطن ” الحبيب ” ، قد أحدث مصطلح جديد يخدمك أحلامك في النجاة من ذل الجيش وضباطه.
التفييش، وهو أن تدفع مبلغا شهريا للضابط المسؤول عنك في خدمتك الإلزامية ، مقابل أن تبقى حرا طليقا في مدينتك بين أهلك وناسك ، على أن تبقى حريصا على مخابرة ضابطك كل يوم لتعرف جديد حاجياته عند كل زيارة له في آخر الشهر.
مات حافظ الأسد ، وعُفّش ابنه بشار بمنصب رئيس الجمهورية رغم أنوف المعارضين ، فطُفّش الكثيرون منهم عندما لاحت بوادر انقلابهم عليه ، و هم الذين كانوا شركاء والده في بناء السياسة التي طبقت عليهم في نهاية الأمر.
طفّش نظام الأسد الابن ،معارضي ربيع دمشق، وحمل الكثير منهم إلى السجون ، وعفّش مقدرات البلاد مرة أخرى ،في جيوب مقربيه من سلالة مخلوف والأسد وشاليش وغيرها.
استمر الضباط الصغار بتعفيشهم طوال عشر سنوات ، فناموا على سرائر اشتريت بمال السوريين ،وذاقوا طعاما صنعته أمهات السوريين كهدايا لحضراتهم .
لاحت الثورة في الأفق ، لم يكن خوف مؤيدي النظام منها ،بمقدار طمعهم بما ستجنيه عليهم من أرباح ، من خلال ما تعلموه من تاريخ المقايضات على رؤية سجين مثلا ، كما عرفنا وسمعنا أيام سجن تدمر وسعر الزيارة هناك، الشيء الذي تطور في الثورة إلى سعر إخراج سجين ، أو سعر تسليم جثته بعد موته.
التعفيش والتطفيش أمران أخذا بالزيادة طردا مع تطور الأحداث في سوريا ، فالقصف والقتل والإرهاب استخدم للتطفيش من البلاد ، وسار معه التعفيش على خطا واحدة فكل ما فرغت منطقة عفّش أثاثها.
كانت البداية في حمص قبل التعفيش الأخير، عندما أخليت أحياء باب السباع و كرم الزيتون وباب عمرو، فسرقت بكل ما فيها، مناطق كثيرة في سوريا تعرضت لهذه الحوادث أيضا، وعاد أهلها فلم يجدوا فيها قطعة واحدة من أثاثها المتبقي بعد القصف.
لعل الصور في حمص هي الأكثر توضيحا لهذه السياسة ، لكنها ليس جديدة العهد ، هي قديمة قدم النظام ، وستستمر ما استمر.