يتحدَّث المرء عن المأساة السورية، ليجدها أمامه بنية واحدة تتعاظم وتتسع باتجاهات مفتوحة. وحين يقوم الباحث بإخضاعها لقواعد البحث العلمي، سيجد ما لا يحصى من عناصر الدمار والخراب، التي تحول البحث إلى مأساة قاسية قسوة الجريمة، فنحن نلاحظ الآن أن كل قطاعات المجتمع السوري اقتصاداً واجتماعاً وتعليماً بكل درجاته وسياسة وقضاء إلخ حين تنبسط أمام الباحث، يتأكد أن ما يحدث على امتداد ثلاثة أعوام ونيف، يشكل نمطاً فظيعاً وحزيناً واستفزازياً لعله لم يحدث ما يماثله في بلد أو آخر من الجهات الأربع في العالم، وربما كذلك على صعيد التاريخ المكتوب. فالأمر لا يقتصر على تلك القطاعات المذكورة وما لم يذكر منها في المجتمع السوري، وإنما هو يمتد إلى مقاييس ربما تخرج من عالمنا وتاريخنا المألوفين، كأن يكون من نمط ما عُمم تحت مصطلح «تسونامي»، أو من نمط الأساطير التي مرت في تاريخ البشر، مثل «الطوفان العظيم» في العالم القديم.
لقد تعاظم الجوع لدرجة أن يموت الناس أطفالاً وعجزاً وغيره من الجوع! واتسعت الأمراض القديمة، ونشأت أخرى، مع تدمير المستشفيات والمشافي، وأصبحت الأدوية والإسعافات خارج الاستخدام، بعد أن تحولت إلى «رغيف» تحول إلى خيال .. أي إلى هدف غير قابل للمنال حسب المأثور الشعبي العربي، بل في المأثور المصري التاريخي أن حكيماً ذكر في ما كتب أن «الناس يبحثون عن قبور لإيواء موتاهم، لكن عبثاً». لقد أعلن في الأخبار مؤخراً أن عدد الجرحى ارتفع خصوصاً في أوساط المدنيين، إلى مليون ومائتي ألف جريح؛ وأن عدد القتلى بكذا طريقة أو بأخرى وصل إلى ست مائة ألف قتيل؛ مع تهديم ونهب لأعداد هائلة من البيوت السكنية والمحال العامة والمدارس، بمن فيها وبما عليها.
لقد أخذت إحدى المشكلات تكتسب طابعاً مترعاً بالعار الأصغر، وهي المتمثلة بتقديم الأطفال السوريين واجباتهم الامتحانية المدرسية من الابتدائية إلى شهادة الثانوية بالنسبة إلى الراشدين دون أن يكون هنالك مرجعية في البلد الأم سوريا، كما في بلدان النزوح، مثل لبنان وثمة تقديرات تشير إلى أن أعداداً متعاظمة من الأطفال والراشدين السوريين النازحين تمر بمأساة في كلا البلدين، بلد الأم وبلد النزوح. وهذا بدوره يشير إلى أن أجيالاً من أولئك سيتخرجون في «عالم الأمية الأبجدية والثقافية». والأكثر مكراً وإيلاماً أن مشكلة أخرى تشابكت مع المشكلة المذكورة، وهي إمكانية القيام بتقديم الامتحانات، في ظروف تنتفي فيها إمكانات العودة إلى الوطن الأم بسبب تهدم ما لا يحصى من المأوى والمنازل، التي كانوا يمتلكونها أولاً، وثانياً لسبب توقُّف توزيع المواد الإغاثية في البلد الآخر (النزوح).
إن الضمير العربي والعالمي أصيب كلاهما في سياق المأساة السورية غير المسبوقة، بأمراض الحواس الخمس كلها؛ وهذا – كما يقول العارفون – من علامات التسونامي الجديدة الذي يبشر «بقيام الساعات كلها». إن المصالح الكامنة وراء ضمائر السياسيين الجدد من الليبراليين ذوي «التاريخ الثوري»، فعلت فعلها. فهي أوقفت حكماً تاريخياً في عقوبة قتلة الأطفال، وغزت العالم بالنازحين السوريين، الذين كانوا قد أسهموا في تمجيد الحياة وتعزيز أفكار التسامح والعيش المشترك في وطنهم السوري كما في البلدان التي مكثوا فيها أو عبروها.