إذا صحّت التسريبات عن قبول الكرملين بإزاحة بشار الأسد لصالح رئيس علوي آخر فذلك سينقل البحث في الملف السوري إلى مرحلة جديدة، ويدلل عملياً على فقدان الثقة بقدرة الأسد على حماية مصالح حلفائه على رغم الدعم الكبير الذي ناله منهم. الخبر الذي تمّ تداوله أخيراً ينصّ على رغبة روسيا في إيجاد بديل من الطائفة العلوية يضمن مصالحها ومصالح الأقليّات، ويلمّح إلى قبول أميركي بذلك، وإلى قبول سعودي بالخطة الروسية التي عرضها بوتين على العاهل السعودي في اتصال هاتفي يوم الخميس الفائت. الصيغة الروسية المسرّبة تستلهم المحاصصة الطائفية إذ تعتبر وجود رئيس علوي في سدّة الرئاسة ضمانة لحماية الأقليات. ومع أنها تتحدث عن رئيس انتقالي مؤقتاً إلا أن حجة حماية الأقليات لن تكون عارضة ومن المرجح أن تنسحب هذه الضمانة على المرحلة اللاحقة، فلا تكون حماية مكونات المجتمع السوري شأناً دستورياً وحقوقياً في إطار المواطنة المتساوية والمتكافئة، بل تدخل في إطار اقتسام المناصب بشكل قسري مستدام، وبما ينافي فكرة المساواة. على ذلك لن تكون الخطة مدخلاً لاستقرار حقيقي إذا أخذنا بالحسبان تجارب قريبة جداً مماثلة. فالصيغة اللبنانية الأعرق في المنطقة لم تبنِ استقراراً سوى على سبيل الهدنة بين حربين، والصيغة العراقية قابلة للانفجار على مثال التفجيرات التي تودي يومياً بحياة العشرات من العراقيين.
من جهة أخرى تلتف الخطة الروسية على مقرّرات مؤتمر جنيف1، فتفترض ضمناً بقاء الدستور الحالي أو تعديلات دستورية غير جوهرية تُبقي على الصلاحيات العسكرية والأمنية للرئيس، أي تجرّد الحكومة الانتقالية من الصلاحيات الكاملة، ومن المعلوم أن الثورة السورية قامت أساساً على الضد من النظام الأمني القائم. من المعلوم أيضاً أن سوريا شهدت منذ حركة 23 شباط/فبراير 1966 تحكماً أقلويّاً بمراكز القرار العسكري والأمني، ثم ضاقت دائرة صناعة القرار لتصبح شبه عائلية بعد انقلاب حافظ الأسد على زملائه في حزب البعث. هذا التحكم بالقرار هو ما أدّى بسوريا إلى الحال الذي وصلت إليه، وبقاء الأجهزة الأمنية بمثابة سلطة فوق كل السلطات الأخرى يقوّض المطالب التي تنادي بها الغالبية الساحقة من السوريين، بمن فيهم شرائح بقيت على مسافة من الثورة.
على صعيد متّصل، تأخذ حجّة حماية الأقليات، ويُعنى بها أساساً “الأقلية” العلوية، دلالة مختلفة عمّا يُشاع، وفي جانب مهمّ منها تظهر كإلتفاف على العدالة الانتقالية التي يستحقها حوالى مئة وخمسين ألف قتيل سوري حتى الآن. فلا الخطة الروسية ولا حتى الإعدادات لمؤتمر جنيف تلحظ أن العدد المهول من القتلى في صفوف المدنيين لم يُصب أبناء الأقليات، وأن الدمار والنهب الكبيرين في الممتلكات لم تتضرر منه أية أقلية، وأية مصالحة وطنية لا تأخذ بالاعتبار تعويضَ المتضررين على كافة المستويات وفضحَ كافة الانتهاكات لن تؤدي سوى إلى ترك الأحقاد مؤجلة إلى فرصة أخرى.
ليست المشكلة في سوريا أن يرأسها علوي أو سنّي، فعندما اندلعت الثورة لم يكن هناك مشكلة مع شخص الرئيس أو انتمائه الطائفي، وفي البداية كان ثمة قبول بأن يقود الأسد نفسه عملية إصلاح متدرّجة. طوال الثورة أيضاً لم يكن هناك مشكلة في مشاركة مكوّنات المجتمع السوري كافة في المرحلة الانتقالية وفي مستقبل سوريا، ولا تخلو هيئات المعارضة الأساسية من أشخاص ينتمون إلى الطيف السوري الواسع. لقد قبلت المعارضة حتى بمشاركة شخصيات من النظام لم تتلوث أيديها بالدماء، ورحبت بعمليات الانشقاق وهناك بين المنشقين من أصبح في الصفوف القيادية الأولى للمعارضة. أما التشكيلات العسكرية فتحاشت بمعظمها فتح معركة الساحل، على رغم ما لها من أهمية معنوية على قاعدة النظام، ولم يكن ذلك لنقص في القدرات العسكرية، أو أقلّه في القدرة على إيقاع الأذى، ولكن ضمن حسابات وطنية أولاً تتعلّق بالحفاظ على ما تبقى من السلم الأهلي.
بخلاف الأجواء التي يشيعها النظام، وبعض المثقفين المنحدرين من أصول علوية، فإن العلويين لم ينظروا سابقاً إلى أنفسهم كطائفة سياسية، وكان مفهوماً من قبل الكثيرين أن الاصطفاف الحالي لن يوصل بالضرورة إلى “علوية سياسية” على العكس مما سينجم عن تكريس حقّ الطائفة في منصب الرئاسة مع إبقاء صلاحيات الجيش والأمن حكراً لها. لذا سيكون من الإساءة بمكان تحويل العلويين إلى طائفة سياسية، واختزال دورهم في الإمساك بمفاصل السلطة الأمنية والعسكرية؛ ذلك سيجعلهم، كطائفة هذه المرة، بمثابة سلطة قهر لبقية السوريين.
المغزى الوحيد لتداول أفكار هذا الطرح هو التضحية برأس النظام والإبقاء عليه مع صبغة طائفية، وعليه يجري تقويض الثورة من أساسها، لأن المحكّ ليس في مَن يتولى الرئاسة بل في تجريد المنصب من الصلاحيات التي تتيح لأي رئيس مقبل أن يصبح مستبداً جديداً.