تكرّرت مؤخراً، وبمناسبة عاشوراء، الإطلالات الخطابية لحسن نصر الله، الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني. وبين أمور عديدة أثارها في خطاباته، كان أكثر ما استوقف المراقبين والمعلقين، المؤيدين له والمخاصمين، توكيده أن حزبه ليس بحاجة لأي غطاء في تدخله في سوريا، «لا ماضياً ولا حاضراً ولا مستقبلاً»، على ما قال حرفياً وأعاد.
والموقف هذا لم يكن مفاجئاً في حزب لم يعترف بأي شراكة مع الدولة أو المجتمع اللبنانيين فيما خص أمور الحرب والسلام. مع هذا فما كان مفاجئاً هو الصراحة والإصرار اللذان اتسم بهما كلامه. ذاك أن نصرالله كان من قبل يغطي مواقف كهذه بزعم المصلحة العامة، أو بطلب الحوار مع الآخرين، أو بمحاولة البرهنة على عدم التعارض مع سيادة الدولة. أما الآن فاختلف الأمر تماماً ولم تعد هناك أية حاجة إلى أوراق التوت.
نفهم، حيال حالات كهذه وحالات مشابهة سابقة، حجم ما أنزلته سنوات وصاية النظام السوري بلبنان. فالسلطة الأمنية في دمشق، وبالتعاون والتنسيق الوثيقين مع النظام الإيراني، أنزلت تدميراً غير مسبوق بالقوى السياسية والمجتمعية في لبنان مقابل تعزيز متواصل لقوة «حزب الله». وكان ما يملي هذه الاستراتيجية الخبيثة، والتي تتذرّع بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، زرع عناصر الضعف عميقاً في التكوين اللبناني، بحيث يعجز هذا البلد الصغير مستقبلاً عن حلّ تناقضاته والوقوف على رجليه. فنحن هنا أمام قوة باتت، بلا قياس، أقوى من الدولة اللبنانية.
وقد تبدى الأثر المباشر لهذه الاستراتيجية مع اضطرار القوات السورية إلى حزم حقائبها والرحيل عن لبنان، إثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. آنذاك أريد لـ«حزب الله» أن يملأ الفراغ الذي خلّفه رحيل تلك القوات، وكان من الجلي أنه يملك القوة التي تخوّله القيام بهذه المهمة. وفعلاً ففي مايو 2008، ومن خلال هجومه على بيروت واحتلاله لها، مدعوماً ببعض حلفائه الصغار الذين جيّرتهم له القوات السورية، أكد «حزب الله» أنه يستطيع الوفاء بالمهام التي أوكلت إليه.
في هذه الغضون، لا بأس بالرجوع إلى المحطات السابقة التي عرّجت عليها تلك الاستراتيجيّة.
ففي مطالع الثمانينيات، إبان الحرب العراقية- الإيرانية التي وقفت فيها دمشق إلى جانب طهران، ولد «حزب الله». وكما بات معروفاً كان علي أكبر محتشمي، السفير الإيراني في دمشق، من بادر بالدعوة إلى تأسيسه. وفي هذا الإطار تم شقّ «حركة أمل» الشيعية اللبنانية التي أبدت استعدادها للعمل على إعادة بناء الدولة اللبنانية، فنشأت من صفوفها «حركة أمل الإسلامية» التي ما لبثت أن انضمت إلى الكائن الوليد، «حزب الله».
وإلى جانب العمليات الانتحارية وغير الانتحارية ضد القوات المتعددة الجنسية التي جاءت إلى لبنان لرعاية سلامه الناشئ واستقراره الموعود بعد الاجتياح الإسرائيلي، بدأ مسلسل خطف الأجانب واحتجازهم في الضاحية الجنوبية من بيروت. وهو ما تبين لاحقاً أن الهدف منه تجميع أوراق تفاوضية في يد النظام الإيراني حيال الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة، للحد من دعمها للعراق في نزاعه مع إيران، أو لتغيير سياساتها في هذا المجال جملة وتفصيلاً.
أما العمليات التي كانت تُشن ضد إسرائيل في الجنوب والبقاع الغربي، فكانت توضع مباشرة في الرصيد السوري الذي يستخدمها في تفاوضه المداور مع الإسرائيليين. وكان واضحاً أن إسرائيل لا يمكن أن تنسحب من لبنان وتطبق القرار الدولي 425 ما دام السوريون موجودين فوق معظم الأراضي اللبنانية. ولكن بدلاً من مطالبة سوريا وإسرائيل بالانسحاب، أصبح الانسحاب الإسرائيلي نفسه غير مرغوب فيه لأنه يلغي مبرر البقاء السوري في لبنان.
وعلى عكس الادعاءات بأن السياسة التي رعاها «حزب الله» ركّزت على إسرائيل ولم تتسبب في تناقضات ونزاعات داخلية، تم تحطيم الأحزاب غير الشيعية واغتيال قياداتها، حتى إذا لاحت أواخر الثمانينيات اندلعت حرب مدمرة ومكلفة بين «حركة أمل» و«حزب الله»، في الضاحية الجنوبية والجنوب، لاسيما إقليم التفاح جنوب جزين.
ومع الانسحاب الإسرائيلي في 2000، تزايد تورط «حزب الله» في السياسة الداخلية بوصفه طرفاً من أطراف المناكفة لرفيق الحريري. وكان ما سهّل عليه هذه المهمة أنه سبق وأن انخرط في العمل البرلماني بعد الحصول على فتوى من آية الله الخامنئي تجيز له ذلك.
لكنْ بعد اغتيال الحريري في 2005، بدا المطلوب تبديد الجهد الوطني العابر للطوائف الذي عبرت عنه تظاهرة 14 مارس (آذار) الشهيرة، والدينامية التي أطلقتها وآلت إلى خروج الجيش السوري من لبنان. فهنا انتقل التركيز من التذرع بإسرائيل ومقاومتها إلى طرح مسائل الحرية والسيادة الوطنية، الأمر الذي اعتبره «حزب الله» خطراً داهماً على وجوده وعلى مبررات ذاك الوجود. وتولى خطف الجنديين الإسرائيليين والحرب التي نجمت عنه في يوليو 2006 إلى إرجاع الوضع السياسي وأجندته إلى ما كانا عليه قبل اغتيال الحريري.
وها هو التورط العسكري في سوريا دعماً لنظام الأسد يتوّج تاريخ الحزب كأداة لمصالح خارجية مضادة لكل مصلحة لبنانية. والحال أن العلاقات العدائية بين الطوائف اللبنانية لم تكن في أي مرة سابقة على ما هي عليه اليوم. يصح هذا فيما خص العلاقات السنية- الشيعية، لكنه يصح أيضاً في ما خص العلاقات الدرزية- الشيعية التي لا يحول دون انفجارها إلا الخوف من سلاح «حزب الله». أما المسيحيون الذين حمل ميشل عون أكثر من نصفهم على الوقوف قريباً من «حزب الله»، فهم أيضاً متحفظون على الثقافة والوعي الحادين في مذهبيتهما كما ينشرهما الحزب المذكور.
فامتلاك السلاح اليوم تسري مفاعيل هيمنته على رقعة تغطي كامل المساحة اللبنانية، من الاستحواذ على السياستين الدفاعية والخارجية إلى العلاقات اليومية في الشارع والجامعة وأمكنة العمل. فكأننا أمام حزب بات وجوده يصطدم على نحو يومي بوجود الوطن نفسه. وهذا وضع غريب وشاذ بطبيعة الحال