بقلم :سمير عيطة
المؤسّسة العسكريّة هي مؤسّسة أساسيّة لاستمراريّة وجود أيّ دولة، خاصّة في منطقة مضطربة، وهي تلعب دوراً حاسماً في نجاح مسار انتفاضات أو ثورات شعبيّة، عبر دعمها لها أو على الأقلّ حيادها [1]. إلاّ أنّ دعم الجيش هو شرطٌ ضروريّ لكن غير كافٍ لإنجاح ثورة؛ لأنّ ما ينجحها فعلاً هو تضافر أغلبيّة القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية حول مشروعٍ تتشارك فيه بين بعضها… ومع الجيش.
في حال غياب هكذا مشروع، يبيّن تاريخ الانتفاضات والثورات في العالم أنّه من النادر ألاّ يمتثِل الجيش – ومجمل قوّات الأمن – لأوامر السلطة السياسيّة، ويقف مع انتفاضة الشعوب ضدّ القمع، حتّى لو كان البلد ذا إرثٍ ديموقراطيّ. ومثال الجنرال ديغول عندما استدعى الجيش الفرنسي من ألمانيا للمساعدة على قمع انتفاضة ما سمي بـ”ثورة الطلبة” عام 1968 دليل بليغ على ذلك. بل هناك الكثير من الأمثلة عن استدعاء جيوشٍ خارجيّة لقمع انتفاضات شعبيّة، من تشيكوسلوفاكيا إلى البحرين.
هكذا تتمثّل إحدى أكبر مفارقات الربيع العربي في أنّ الجيشين التونسي والمصري قد ساعدا في حسم رحيل رأس السلطة سريعاً، في حين اختلف الأمر في ليبيا واليمن وسوريا أو البحرين. تضافر القوى المدنيّة كان هو العنصر الأساسيّ كي يحسم الجيش موقفه في تونس ويساعد على رحيل رأس السلطة سريعاً، ثمّ وهذا الأهمّ في أن يترك هذه القوى المدنيّة هي التي تتوافق على إدارة المرحلة الانتقالية. إلاّ أنّ الحسم السريع الآخر في مصر، لا يمنع اليوم تساؤلاً حول معنى “سقوط النظام” حيث الجيش قويّ ولقياداته مصالح وارتباطات خاصّة، ويتمنّع حتّى الآن عن التخلّي عن السلطة إلى المدنيين، ليصنعوا هم المرحلة الانتقاليّة.
السلطة التي ترفض الإنصات إلى صوت الشعب المطالب بالحريّة وما يمثّله من استثناءٍ تاريخيّ – فالشعوب تنتفض بعد سباتٍ طويل، كما يحدث مع الربيع العربي اليوم – وترفض حلّ الأزمة التي يخلقها هذا الاستثناء عبر تغييرٍ هو الآخر استثنائيّ وتاريخيّ على صعيد السياسة، وتفشل في إخماد هذه الانتفاضة عبر قوّاتها الأمنية، تلجأ إلى زجّ الجيش الوطني في معركة ضدّ الشعب. وهنا تبرز معضلة حقيقيّة بالنسبة لهذا الجيش، الذي لا يجد مهمّته الطبيعيّة في قمع الشعب، بل بالدفاع ضدّ عدوّ خارجيّ. وتتعمّق المعضلة عندما يؤمر من ناحية بقتل أهله، ولا يستطيع من ناحية أخرى رفض الأوامر. هكذا تدخل البلاد إلى مأزقٍ أكبر. وقد ينتصر الجيش على شعبه، لكنّه سيحكم بعدها دون أدنى شرعيّة، فارضاً شروطه حتّى على السلطة التي أخذته إلى هذا المأزق، كما الحال بعد انقلابٍ عسكريّ.
إلاّ أنّ إحدى خصائص الربيع العربي الكبرى تكمن في موت الخوف عند الشعوب، وتنامي الإحساس أنّها تعيش لحظةً تاريخيّة تستحقّ التضحية. وبالتالي يواجه الجيش والبلاد برمّتها استعصاءً أمام صلابة إرادة الشعوب في التغيير. لكن يبقى الخروج من هذا الاستعصاء مرهوناً بنوعيّة المشروع السياسي للتغيير، كما بدرجة العنف الذي يعتمده.
في الحالة الليبيّة، اعتبر المنتفضون وقيادتهم السياسيّة أنّ التغيير لن يحصل إلاّ عبر معركة تحرير عسكريّة، أي بالعنف، دون أن يكون هناك أيّ مشترك بين المشروع السياسي للمنتفضين وبين القيم التي تمّ تأسيس جيش هذا البلد عليها. مشروعٌ ضدّ مشروع، علمٌ في مواجهة علم، عنفٌ ضدّ عنف. ولم ينته الاستعصاء إلاّ بتدمير الجيش الليبيّ، الذي أسمته حينها بعض وسائل الإعلام “كتائب القذافي”. وفي ليبيا كما في العراق مع الغزو الخارجيّ، يجب إعادة بناء الدولة وكذلك الجيش بثمنٍ باهظ اجتماعياً وسياسيّاً وبالطبع اقتصادياً، هذا فضلاً عن الالتزامات تجاه الخارج الذي ساعد في الأمر.
في اليمن، اختلف المسار، فقد تشارك جزءٌ كبيرٌ من الجيش مع مشروع المنتفضين، وبقي العنف نسبيّاً، فانقسم الجيش إلى قسمين. وبالتالي أجبر هذا الانقسام على حلٍّ تفاوضيّ، قضى برحيل رأس السلطة، وتقاسم المعارضون والموالون السلطة لمرحلة انتقاليّة. إلاّ أنّ الانتفاضة لم تنته، وبقي المستقبل حمّال أوجه إذ أنّ النظام من حيث تركيبته السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة لم يسقط حقّاً!
في سوريا، وصلت حالة الاستعصاء إلى ذروتها. ولم يكن الجيش بدايةً هو الخيار الأساسي للسلطة في قمع الاحتجاج، بل أجهزة الأمن المستشرية وخاصّة ميليشيات “الشبيّحة” شبه العسكريّة. دفعت بها السلطة بنيّة أن تخرج الانتفاضة عن مسارها السلميّ المدنيّ، وعبر نشر أقسى درجات العنف والضغينة. إلاّ أنّ العنف خلق عنفاً مضادّاً، ووقع جزءٌ من الحراك بدعم بعض فصائل المعارضة رويداً رويداً في فخّ الذهاب إلى العنف المقابل، ومواجهة مشروعٍ بمشروع، وعلم بعلم،… وسرت اتّهامات للجيش، حتّى قبل أن يتمّ زجّه بشكلٍ كبيرٍ في القمع، أنّه جيشٌ عقائديّ، في تلميحٍ ضمنيّ إلى أنّه طائفيّ أو ذو مشروعٍ غير وطنيّ. وبدت مبادرة الجامعة العربيّة ومراقبيها في هذا السياق كنوعٍ من الهدنة التي قد تسمح بوقف القتل والقتال، وتتيح الفرصة لعودة التظاهر الجماهيريّ السلميّ في أفق فرض حلًّ تفاوضي.
في كلّ الحالات، إنّ أيّ خروج نهائيّ من الاستعصاء بين انتفاضة شعبيّة وجيشٍ وطنيّ لا يمكن أن يكون إلاّ عبر السياسة، أي عبر البحث عن نقاط مشتركة في مشروعٍ سياسيّ واحد، بعيداً عن العنف. من ناحية، لن يقبل الشعب بأقلّ من الحريّة والكرامة، ورحيل السلطة الحالية، ولا يمكن للجيش في مشروع كهذا أن يكون جيش عائلة أو سلطة، بل ضامناً لسيادة الشعب والوحدة الوطنيّة ومنعة البلاد. ومن ناحية أخرى، يعرف الجيش أن الشعب السوريّ وطنيّ في صميمه، ومهما كانت تعبيرات الغضب التي يطلقها اليوم من القهر والقمع، وتفوّهات بعض حديثي المعارضة على الفضائيّات، لا يمكن لهذا الشعب إلاّ أن يكون حاملاً لمشروعٍ وطنيّ مشترك مع جيشه.
لا شكّ أنّ مبادرة الجامعة العربيّة ستفتح نافذة، لكنّها تحوي أيضاً الكثير من المخاطر. ما ينتظر منها هو أن تحيّد العنف، وتسمح بالتظاهر الحاشد السلميّ، على الأقلّ لفترة تستعيد فيها السياسة مجالها ودورها. المسؤولية هنا كبيرة على السياسيين كما على الجيش كي يكون مشروع التغيير مشتركاً، يعطي الأولويّة إلى قضيّة إنهاء التسلّط، ويعالج بحكمة مواضيع الأمن القومي المطروحة بقوّة.