الأب باولو في القصير

بقلم:محمود زيبق

كنا نجلس على حصير متواضع في غرفة بأحد منازل القصير بحمص.انتهينا من نصف المقابلة التلفزيونية تقريبا لم أتوقع من الاب باولو كل تلك الجرأة على الرئيس بشار الأسد ونظامه بدا في المقابلة واحدا من الثوار. 

حين قاطعنا في الغرفة رجل يلهث، وقال لي نحن بحاجة الكاميرات، الشبيحة أعدموا 13 عاملا بالبويضة الشرقية، نظرت بعيني الأب باولو نظرة المستأذن وقبل أن أقول أي كلمة قال ‘رايحين سوا’.

وصلنا إلى المقبرة وكان الناس يستعدون لدفن الجثث معظمها لكهول جاوزوا الخمسين، عمال في معمل الاسمنت تعودوا أن يمروا في طريقهم إلى عملهم كل يوم بحواجز للنظام وفي ذلك اليوم وقف إلى جانب الجيش في الحاجز مجموعة من الشبيحة لم يتركوا باص العمل يمر إلى القرية كما جرت العادة وإنما اقتادوهم على بعد 3 كم من حاجز الجيش ثم أنزلوهم وتم إطلاق الرصاص عليهم جميعا. نعم رصاصات في الرأس، إعدام جماعي وكلهم مدنيون.

قال الأب باولو على الهاتف لرئيس بعثة المراقبين الامميين الذي رفض القدوم إلى المكان وطلب من الأب باولو أن يصور الجثث على أن تعتمد شهادته في توثيق المجزرة ‘وشلون بدنا نحسسه بهدول’ قال لي الأب باولو بعد أن أقفل الهاتف وهو يشير إلى بنات احد الضحايا وهن يبكين عليه. رجعنا ذلك اليوم وكان الأب باولو متأثرا جدا، لماذا أعدموهم وهم بهذا العمر؟’ لأنهم سنّة’ قال الأب باولو ‘هذا ما تريده إسرائيل.

تريد من الشيعي أن يقتل السني وهو يعتقد أنه متعامل مع إسرائيل وتريد من السني أن يقتل الشيعي لأنه يعتقد أنه متعامل مع إسرائيل. لم يكن بالإمكان أن نكمل اللقاء التلفزيوني، استلقى ثم اكتفى بتغطية وجهه على فراش يشبهه في بساطته وطلب أن يترك في خلوته لليوم الثاني.

في اليوم الثاني دعوت الأب باولو إلى تصوير جزء من المقابلة أمام أحد مساجد القصير التي طالها القصف كنوع من التوثيق لما ارتكبته مدفعية النظام في المكان، قال لي في الطريق ‘هو مسجد واحد، لو رأيت ماذا فعلوا بالكنيسة، هذا نظام لا يهمه مسجد ولا كنيسة ولا عنده أي شيء مقدس′.

في صباح اليوم الثالث وقبل ان نكمل ما تبقى من التصوير جاء من أخبرنا بأن إحدى السيدات المسيحيات في القصير تعرضت لتهديد، ‘حتروح معي’ قال الأب باولو قبل ان ننطلق إلى بيتها وفي السيارة قال لي ‘أنا خايف من نزعة التطرف عند بعض الثوار’.

عندما وصلنا كانت السيدة الأربعينية خائفة جدا ومعها شقيقها يهدئ من روعها وقد التف حولها مجموعة من الجيران ووجاهات القصير والقصة أن شابين على دراجة نارية صرخا بها في الشارع ‘إما أن تتوقفوا عن التجسس على الثوار أو أن ترحلوا من القصير’ لم تتعرف على هوية من هددها ولكن جيران السيدة اعتذروا لها وقالوا لها نحن نعتبر هذا التهديد تهديدا لنا وأمنكم في داركم من أمننا في دارنا لست محتاجة أكثر من أن تطرقي على باب أي بيت من بيوتنا لدى الحاجة.

ثم انصرف الجيران ودعتني السيدة إلى منزلها الجميل مع الأب باولو كان منزلها أشبه بدير يحف الياسمين مقاعده ويضيف إليها عبقه الممزوج برائحة أشجار الليمون وكانت تطمع أن يقرأ الأب باولو بعض صلواته في بيتها جلس الأب باولو ثم فاجأ السيدة بعدم تناول العصير لأنه كان قد بدأ بصيام ‘صيام مسلمين’ قال شقيق السيدة وهو مستغرب ‘أي نعم’أجاب الأب باولو’ما بتعرف أني درست في كلية الشريعة بجامعة دمشق’ تبسمنا جميعا قبل أن يقول لي الأب باولو ‘أنا خايف من رد فعل النظام على المقابلة’ قلت له وماذا تتوقع أجابني ‘ان يقوم النظام بتصفيتي’ قلت له أنا استبعد أن يصل الامر إلى هذا قال لي بنزق لطيف ‘ليش مستبعد سيدي شفت بعينك اللي صار قبل 5 أيام’.

قبل خمسة أيام كان الاب باولو قد تبرع بالدم لجرحى المشفى الميداني في القصير وعقب مغادرته المستشفى بساعة واحدة بدأت مدفعية النظام بالقصف وفي مكان السرير الذي تبرع فيه الاب باولو بالدم سقطت إحدى القذائف. كان الأب باولو متأكدا أن النظام يعرف من خلال عيونه ما جرى في القصير وكان يرى ان القصف هو رسالة شخصية أرسلها النظام إليه.

في دار تلك السيدة قال لي الأب باولو ‘لي عندك طلب، هذه المقابلة لا أعرف كيف سيرد النظام عليها ولذلك دعني أستبدلها برسالة أخرى تدعو إلى التسامح وتحكيم العقل، لعله أن يكون بينهم بعض العقلاء فيتفكروا في الكلام’.

في مقابلته الثانية في منزل تلك السيدة المسيحية وبين ياسميناتها وجه الأب باولو رسالة عامة خفف فيها من حدة الخطاب الكثير. واتفقنا على أن نبثها بديلا عن المقابلة الأولى حرصا على سلامته (بثت تلك الرسالة على قناة أورينت قبل أكثر من عام). وقبل أن أغادر قال لي انتظر، ‘إذا سمعت أن النظام قام بتصفيتي واغتيالي فأنا أطلب منك أن تنشر المقابلة الأولى’.

عقب تسجيل تلك الرسالة المتسامحة التي تخاطب عقلاء النظام بثلاثة أيام أصدر الأسد قرارا بطرد الاب باولو من سورية وعقب خروجه من البلاد أجرى الأب باولو عدة لقاءات صحفية قال فيها بحق النظام أكثر مما قال لي في المقابلة الأولى أثناء وجوده في سورية.

كل من عرف الاب باولو كان يحبه لأخلاقه العالية، كان صاحب ابتسامة دائمة ونكتة، في محادثة أخرى كنت قد اتصلت لأسأله إن وصلته أسئلتي التي أرسلتها إلى بريده الالكتروني لتسجيل مقابلة تلفزيونية في باريس (قبل تسعة أشهر) قال لي ما عرفت أني غيرت بريدي سجله عندك ‘مطرود زعلان أت جي ميل دوت كوم’ تبسم مرة أخرى وقال لي أنا سوري بالهجرة كما أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان من مكة ثم أصبح مدنيا بالهجرة وعاد إلى المدينة مرة أخرى ومات فيها وفاء لها ولو طردني النظام كما طرد سوريين آخرين فإنه يخرج منها جثثنا لا أرواحنا.

قدمت بهذا ليعرف الجميع أن المستفيد الاكبر من غياب الأب باولو هو النظام السوري لا غيره سواء كان تغييبه على يد النظام أو على يد غيره.

لا أعرف إن كان الأب باولو اليوم في قبضة دولة العراق والشام الإسلامية أو في قبضة النظام كل ما أعرفه أنه اختفى فجأة في الرقة ولم يعلن أحد مسؤوليته عن اختطافه وإن كان الكثيرون قد استعجلوا باتهام دولة العراق والشام بالخطف والقتل. لكن ما أعرفه جيدا أن فريقا آخر بكامل معداته من قناة أورينت التي كان الأب باولو يعمل معها في الفترة الاخيرة اختطف في حلب بمنطقة يسيطر عليها الثوار بالكلية قبل أيام قليلة من اختطاف الأب باولو ثم أعلنت إحدى الصفحات المؤيدة للنظام أنهم معتقلون في فرع للمخابرات العسكرية بحلب دون أن يعرف أحد تفاصيل أخرى عن اختطافهم

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *