بقلم:ميشيل كيلو
الاستبداد للفنان العراقي الكردي اسماعيل خياط
يجعل خلق كثير، الاستبداد مسؤولا عن تدني سوية الوعي السياسي عند عامة السوريين، وهذا اعتقاد صحيح فيما يتعلق بالنظام. لكنه لا يبقى صحيحا تماما، ويكون ناقصا إن نحن نظرنا إلى الأمر من جهة المعارضة. عندئذ سيكون علينا القول: لو كانت هناك قوى سياسية معارضة، شعبية الجذور ومتقدمة الوعي، لامتلك قطاع واسع من المواطنين وعيا سياسيا مطابقا إلى حد بعيد لواقع سوريا ونظامها، الذي كان الجهة السياسية الرئيسة والفاعلة سياسيا خلال نصف قرن كامل، غطى حضورها أثناءه كل مكان وركن من وطننا، بحيث يصح اعتبار وعي وضعه وسياساته معادلا على وجه التقريب للوعي بالجزء الأعظم من واقع صنعه وحده بعد انفراده بالسلطة عام 1965 عامة و1970 بصورة خاصة.
لا مراء في وجود مشكلة وعي سياسي عند أغلبية السوريين. ولا مجال لإنكار أن معظم مواطناتنا ومواطنينا امتلكوا دوما حسا سياسيا سليما، عوضهم إلى حد ما عن الوعي السياسي، الذي كان بوسع قوى معارضة قوية ومتجذرة في المجتمع تقديمه لهم. على أن مشكلة الافتقار إلى وعي سياسي سوري مطابق ليست عند الشعب، بل هي قضية نخبوية من الطراز الأول، بدلالة ما أبدته الطبقة السياسية السورية المعارضة خلال الثورة من قصور وفوات وعي: سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وحتى تنظيميا، حتى ليمكن القول دون مبالغة: إن حدس الشعب وحسه السياسي متقدمان على وعي النخب والأحزاب الناشطة في الساحة، التي يفترض عموما أنها تمثل لحظة الوعي السياسي، ما دامت تدعي لنفسها حقا حصريا هو قيادة الشعب الثائر، الذي منعه قمع النظام وعنفه المسلح من دون بلورة قيادة من صفوفه تعبر عنه.
إذا كان الوعي الشعبي محكوما بالقمع السلطوي ونزع السياسة من المجتمع، بماذا نفسر تخلف وعي النخب الحزبية خاصة والسياسية عامة؟ وهل يجوز أن نقبل ما تقوله هذه حول القمع كسبب لفواتها الفكري والثقافي، وما ترتب عليهما من تخبط وتهافت صحبا ما اتخذته من مواقف، وطبعا برامجها بعيوب كثيرة أدت إلى حدوث فجوة بينها وبين الواقع، وإلى وقوع انزياح عنه جعلها عاجزة عن الفعل والتأثير؟. كيف نفسر أن هذه القوى لم تقدم إلى اليوم خطة سياسية تشخص مراحل الثورة والمهام المطلوبة في كل واحدة منها، والعقبات التي عليها تذليلها وتخطيها، وموازين القوى الضرورية لنجاح كل واحدة منها؟. هل الاستبداد هو المسؤول عن الافتقار إلى هذه الخطة لدى معارضة تزعم أنها قائدة الثورة، وبماذا عساها تقودها إن كانت لا تمتلك هي نفسها خططا توجه خطاها وتساعدها على تدبر أمورها ومواجهة ما قد يعترض سبيلها من متغيرات ومصاعب؟. وكيف يكون غيرها مسؤولا إن كانت تعتبر نفسها ثورية وحققت إنجازات نضالية ضده، مثلما تحب أن تؤكد دوما؟. وأخيرا، هل يجوز لمن يقدم نفسه للشعب كجهة فشلت السلطة في التأثير عليه واحتوائه وكسر شوكته، أن يلقي أسباب تأخر الوعي على سواه بينما يدعي لنفسه نجاحات منقطعة النظير في مواجهة السلطة وما تمتلكه من منظومة فكرية وأيديولوجية؟.
ليس النظام وحده مسؤولا عن تخلف وعي الشعب السياسي عامة وعن سوء إدارة المعارضة الحزبية للثورة بصورة خاصة. هذا الواقع أنتج مشكلتين مستعصيتين: أولاهما أن المعارضة لا تقر بمسؤوليتها وبدورها في تأخر الوعي عندما ترى في النظام وحده سببا لها، وثانيتهما أنها تتهرب من مواجهة ما هو قائم في الساحة العامة من وعي متخلف، وتهرب من ضرورة بلورة وعي مطابق للواقع، حديث وضارب، يلبي متطلبات النضال، وتقفز فوق مسألة مفتاحية في كل سياسة، هي أن الثورة تمر في مرحلتين، أولاهما وعي الواقع وامتلاك رؤى نظرية وعملية لبدائله. بما أن أحزاب المعارضة تجاهلت دوما هذا الطور، أو لم تدرك أهميته الحاسمة أو تفهم أن الثورة في الواقع لا بد أن تسبقها ثورة في الفكر والوعي، فقد قفزت دوما إلى مرحلتها الثانية، التنفيذية، التي اعتبرتها كل الثورة، فركزت أنظارها وأنشطتها عليها، ببرامج خلت غالبا من الفكر والمعرفة، واتجهت نحو تنظيم وتحشيد قوى مجتمعية خالت أن عفويتها كفيلة بقلب النظام القائم.
ثمة بلدان واجهت ديكتاتوريات عاتية حكمت لفترة طويلة، لكنها فشلت في تقويض المعارضة وقطع علاقاتها مع شعبها. أليس في هذا الدليل على أن امتلاك وعي سياسي ليس مرهونا بالنظام وحده؟