أزمة القيادة في سوريا


بقلم :خيري الذهبي

كان السؤال الذي واجه السوريين غداة تحلل ثورتهم في العام 1926 1927 هو: ما الذي نريده من سوريا؟ أي مستقبل سيواجه هذه السوريا؟ كيف سنستطيع دمج هذه الأمزجة المختلفة من فراتية، ومدينية، وفلاحية، و…..المختلفة مذهبياً، المختلفة حتى تكفير كل مذهب منهم للآخر، كيف ستكون هذه السوريا التي لم نختر اسمها، ولم نختر حدودها، ولم نختر راية ثورتها، وها نحن نواجه هزيمة «سوريتنا» لأول مرة في التاريخ.

ثورات، أو هوجات، أو تمردات السوريين، أو المقيمين على الأرض الشامية، والذين سيسمون بالشاميين في القرون الفائتة، هذه الثورات التي كانت تتغلل دائما بغلالة أن الحاكم، أو الطبقة الحاكمة لم تستجب للواجب الإلهي، العقد الذي بموجبه اعتلت الحكم، لقد خانت الشرع، الدين، لذا فمن حق هؤلاء الثائرين أن يزيحوه، ويزيحوها ليحلوا محله، ومحلها من يلتزم بالشرع، بالعهد الإلهي، فيمشي بهم على الطريق القويم ليكونوا الفرقة «الناجية» أما الآخرون من المنحرفين عبادة، ورموزا أولى للدين، والإمامة، والقيامة، و…. مكافأة ما بعد الموت… ولنذكر ثورات القرون الإسلامية الأولى منذ السابع الميلادي وحتى العاشر من خارجية، وشيعية مبكرة، واسماعيلية، قرمطية، و«حشاشية» أتباع حسن الصباح في آلة موت، وامتدادها في سوريا «سنان راشد الدين»، وفاطميين في شمال أفريقية ومصر والشام، ولنذكر أن القرن الذي سبق وصول الصليبيين إلى الشام كان قرن دويلات المدن التي حكمها عرب يدينون بالتشيع على اختلاف الأئمة، سيف الدولة في حلب، ابن مرداس في اللاذقية، بني عمار في طرابلس، بني صدقة في قلعة جعبر.. إلى آخره.

ونعود إلى ما انطلقنا منه، فالسؤال الذي واجه الثوار السوريين المخفقين بعد العودة إلى البيوت، أو الفرار إلى الأردن ومصر والعراق كان: ما الذي لا نريده من سوريا؟ وكان الجواب السريع، والمتفق عليه بين الكثيرين: لا نريد فرنسا الأجنبية الكافرة!!!

السؤال المنطقي الذي يجب أن يتلوه كان: فما الذي تريده سوريا بعد فرنسا إذاً؟….. وهنا بدأت المشاكل، والإجابات المختلفة، فلم يكن لدى السوريين فكرة واضحة متفق عليها عن الدولة الواحدة، عن الحكم والحاكم، والأحزاب، والبرلمان، والانتخابات، ولن أتحدث عن الحريات، لذا فقد تعددت الإجابات، فلا بد أن سلطان الأطرش كان لديه جوابه الخاص، ولا بد أن لابراهيم هنانو جوابه الخاص، ولا بد أن للبطريرك حويك جوابه الخاص، ولصالح العلي جوابه الخاص، كما أن للشهبندر أيضا جوابه الخاص!!

كان السؤال الذي لم يسأل، فأضمر كل أحزان المستقبل: ما الذي تريدونه لسوريا، ومن سوريا، أي شكل من الحكم؟ أي شكل من الدولة؟ أي شكل من المواطنة؟ أي شكل من العلاقة بين الأديان والمذاهب مديرة ظهر كل منها للآخر رغم الادعاء بالانتماء الواحد…. وكان الكثيرون من المتعلمين في استانبول وباريس وبيروت قد استجابوا لتحدي حزب الاتحاد والترقي في تركيا في الدعوة إلى الطورانية وتفوقها العرقي، فأعلنوا عروبتهم في مقابل طورانية الاتحاديين، هذه الدعوة التي وصلت إلى سوريا، بل إلى تركيا نفسها متأخرة، فقد كانت قد أنجزت مهمتها في أوروبا وتحولت إلى «موضة» قديمة منذ القرن التاسع عشر، ولكنها بدت وكأنها الحل للمسيحيين العرب الذين كانوا يبحثون عن الشيء المشترك مع مواطنيهم المسلمين، فوجدوه في القومية «هذه الكلمة السحرية» التي أحلوها محل فكرة «المواطنة» خطأ أم صواباً لست أدري، ولكن ما أدريه هو أن هذا الحل الأوروبي المسموم قد كلف الشرق الكثير والكثير، ولنذكر منجزات البعثين السوري والعراقي!

في العام 1927 كان قادة الثورة قد نجوا بجلودهم، البعض إلى مصر، والبعض إلى الأردن، والبعض إلى العراق، ولنلاحظ أن ملاجئهم كلها كانت في دول خاضعة للاحتلال البريطاني «نوعاً من إغاظة للاحتلالات الفرنسية».

في العام 1927 وصل إلى الاسكندرية في مصر «الكونت دو جوفنيل» المندوب السامي الفرنسي الجديد حاكماً على سوريا، وكان قد رافقه في رحلته من مارسيليا عدد كبير من أذكياء رعاياه الشاميين، فقد مضوا إلى مارسيليا ليكونوا في صحبته منذ عرفوا بسحب المندوب السابق «ساراي». صحبوه على السفينة يحاولون الوصول إليه، والتعرف إليه، وتقديم الخدمات الممكنة متمثلين بالحكمة القديمة «القرب من الحكومة منفعة»…… ويعلق على تهافتهم هذا مؤرخ رحلة دو جوفنيل «بيير دو مازيير»: هؤلاء الناس كانوا دائماً مخلصين لتاريخهم الفينيقي، الثراء مرتبط دائما بالقرب من الحاكم، وليس مهماً كيفية الاقتراب منه.

وصل دو جوفنيل إلى الاسكندرية، ثم إلى القاهرة ليتحدث إلى «قادة» الثورة في مصر، وليفاجأ بأنهم كانوا بالعشرات، وكل يدعي القيادة، والكثيرون يدعون المطالبة بعرش دمشق، فهناك الدرزي الأمير عادل أرسلان المسلح بلقب الامارة، وهناك المسيحي الفلسطيني الأرثوذكسي الأمير ميشيل لطف الله، وكان قد حصل على لقب الأمير بشرائه بمبلغ كبير من الشريف حسين ثائر مكة الذي لم يستطع الحصول لنفسه على لقب «ملك» بعدما نكث مكماهون بعهود بريطانيا، وساعد على إخراجه من الحجاز، فيكتفي بلقب «الشريف».

كان اللقاء في فندق شبرد، وكان هناك جمع من السوريين من غير ذوي «الأسماء»، وكان هناك مجموعة من ذوي «الأسماء»، وكان من بينهم الشاعر والباحث خير الدين الزركلي الذي تعرض بعد ذلك اللقاء إلى هجمات من خصومه السياسيين، فنكشوا له قصيدة كان قد مدح بها الجنرال العثماني «جمال باشا» أثناء حكمه لسوريا، وقبل سقوط الدولة العثمانية، وفيها يقول: أحنوا الرؤوس وذللوا الهامات ….. هذا جمال مفرج الكربات.

استمع دو جوفنيل إلى ثرثرات، وخطابات «الوجهاء»، ولم يعط وعداً بملكية سوريا لأحد من الأمراء بمن فيهم الأمير الفرنسي الدوق دو داماس، والموعود بحكم دمشق منذ الحملة الصليبية الثالثة!

مضى «دو جو فنيل» إلى بيروت، وعاد الأمراء والوجهاء إلى الشجار وتخوين كل منهم للآخر، وكان على الثورة أن تنتظر نبيّها المخلص في الجنرال البريطاني «سبيرس»، والذي سيعطون اسمه بعد الاستقلال لشارع من شوارع دمشق قريب من السفارة الفرنسية… وستمضي فرنسا إلى فرنسا، وستقوم دولتا سوريا ولبنان على أنقاض دولة الانتداب الفرنسية، وستقوم دولتا فلسطين، المتهودة «اسرائيل»، ودولة الأردن على أنقاض دولة الاحتلال البريطانية.

سيلاحظ المراقب لمصير هذه الدول الأربع أن ما كان تحت الاحتلال الفرنسي سيقضي سنوات ما بعد الاستقلال في هوجات وانقلابات، ودمويات، أما الأردن وهي الأفقر، والأكثر بداوة فكانت أقل توتراً، وانقلابات، أو محاولات انقلابية، فإذا ما استدرنا إلى الشتلة الأوربية في الشام، فسنلحظ أنها الأكثرهدوءاً واستقراراً، فقد صحبت معها من أوروبا تاريخ أوروبا السياسي ولم تحد عنه، الديموقراطية، والأحزاب، وتبادل السلطة «السلمي».

ربما كانت الفترة التي هدأت فيها سوريا التي كانت فرنسية، وأعني سوريا ولبنان، فترة قصيرة، فقد كانت تغلي في انقلاب إثر انقلاب في انتظار الموعود، المملوك الحقيقي، الوارث الحقيقي للحكم المملوكي، الداهية، البطاش، وريث بيبرس دون انتصارات، ووريث قلاوون الذي اجتاز حلقة نار الذئاب المملوكية، والذي أكسبه الدهاء كل شيء إلا أن ينقل إلى أبنائه القدرة على الطفو في أقسى الظروف.

وصل الموعود، وهدأت السوريتان أخيراً مكرهتين، خاضعتين لبسطار المخابرات الذي انسل إلى ما بين الرجل وأهله، فحكم السوريتين لثلاثين سنة، وقد نجح فيما فشل فيه ضرائره صدام حسين، وحسني مبارك، والقذافي، فقد نجح في توريث حكمه إلى ابنه، ونجح في جعل العجلة تدور بقوة دفعته حتى بعد موته، عجلة المخابرات، والحزب القائد، وتوازن الدور الجغرافي، والجيو ستراتيجي، والمذهبي المشترك مع دول الجوار، والعرقي المشترك أيضاً مع دول الجوار.

و…أخيراً توقفت العجلة المدفوعة عن الدوران و… انقلبت، ولكن الوارث لم يكن يملك شعرة معاوية، ولا عصا العز التي تهز فقط بالهز، فلقد حفظ نصف درس معاوية: إن شدوا الشعرة، فأرخ، حفظها، فإن شدوا فاشدد واضرب حتى تدمي، وهكذا دخلت السوريتان في الدوامة التي نرى.

فقدت سوريا دورها المحوري، وفقدت موقفها الندي من الجوار، ثم…..أخذت تفقد تماسكها الداخلي، ويمضي الصحافي إلى أطياف الثائرين يسألهم: ما الذي لا تريدون؟ ويجتمع الجميع على جواب واحد كما اجتمعوا قبل ثمانين سنة ونيف: لا نريد الوريث! ولكن الصحافي لا يتوقف كما لم يتوقف دو جوفينيل في ما مضى، فيسأل: ولكن ما الذي تريدون؟ وعندئذ تتعدد الإجابات، تتعدد حتى تقارب الاشتباكات، تتعدد حتى لتصل أو تقارب الوصول إلى التخوين التكفير، وأخذ الكل يتشمم قفا الآخر يبحث عمن يموله، وعمن يوسوس له، وينقب في ماضيه باحثاً عما يمكنه أن يهدمه من خلاله ولكن واحداً منهم لم يستطع أن يقدم مشروعاً لما يريده لسوريا أن تكون.

سوريا الآن في أزمة مصيرية، أزمة لن أبحث عمن اصطنعها وتسبب بها، أهو الراحل الذي قتل كل بذرة رأي، أو فكرة لسوريا الغد؟…. سوريا الآن لا قيادة فيها، وربما كانت هذه هي مشكلتها الكبرى. أهذا هو اللغم الذي تركه لنا الراحل لحماية ذكراه، أم أنه المرض الأصيل في البنية السورية!

سوريا النظام أثبتت أن القيادة فيها قد عاشت بقوة الدفعة الأولى حتى الآن، وكان بإمكانها أن تجتاز بسوريا المأزق الذي تعاني اليوم لو أن عقلاً سياسياً استدعى قاتل الأطفال وجعل منه الفداء لإنقاذ الجميع، ولكنه لم يفعل… لو أنه قام ببعض الإصلاحات الأساسية، حريات، تبادل سلطة، برلمان حقيقي، لأنقذ السوريتين، ولكنه لسبب لا أستطيع إلا أن أسميه بالقدرالأسود لم يفعل، ولسبب ما قرر إعادة تجربة دواء كان فيه من السم الكثير، ولكنه نجح!! «كارثة 1982في حماة»، فأيقظ غضباً مضى عليه ثلاثون عاماً، وظنوا أنا نسيناه.

سوريا الآن في مأزق فقدان القيادة التاريخية لدى الجميع، معارضة ونظاماً، فلا قيادة لدى أي من الجانبين، ولا برنامج سياسياً تمشي الجماهير وراءه، بل جماهير تنتحر في غباء!! وليس مهماً اسمها، أنصاراً للنظام كانت، أم معارضين، فإسرائيل بضحكتها الصفراء تراقب وتردد من سفر إرميا: «ارتخت دمشق والتفتت للهرب أمسكتها الرعدة وأخذها الضيق والأوجاع كماخض…. لذلك تسقط شبانها في شوارعها وتهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم يقول رب الجنود… وأشعل نارا في سور دمشق فتأكل قصور بن هدد»…. ودمشق هي الشام، ودمشق هي سوريا، وها هي أماني التوراة تتحقق، فهلا هدأنا قليلاً لنعرف ما يعد لنا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *