موت غوبلز كان إشاعة : ماذا فعلتم بالإعلام؟
by:y. al-ariedy
القناعات الراسخة هي خصوم الحقيقة الأشد خطرا من الأكاذيب:
نيتشه
لم يكن نابليون جاهلاً عندما عبّر عن خوفه من ” جريدة ” أكثر من خوفه من الحراب والسيوف؛ وما كان لينين إلا قائداً خبيراً محنكاً عندما قال “اعطني منبراً للكلام وخذ كل الأسلحة”؛ أما هتلر الذي ابتدع فكرة الدبابة المطاطية ليوهم الحلفاء بقوته، فكان الأدرى بتأثير الدعاية والكذب والإيهام والخداع في الحروب. ولابد وأن الأحب على قلبه من بين رجالاته كان ” غوبلز “صاحب نظرية [ اكذب، اكذب ….. ] ، ولكن غوبلز كان في النهاية أساسياً في الهزيمة النازية.
لا يدرك أهمية الرسالة الإعلامية – وخاصة الكاذبة والمزوّرة – أكثر من الدكتاتوريات التي تشكّل الهيمنة على البشرية هاجسها الأساس. وكي تنجز ذلك، لا بد من برمجة دماغية للرعيّة. منذ أن بدأت الحقبة الأسدية في سوريا، بدأت برمجة الدماغ السوري برسائل يصممها المركز ولا تخدم إلا شخصه ووحدانيته بهدف ان يرى المتلقي ويفكّر ويعبر بالطريقة المرسومة له حصراً؛ وأي خروج على ذلك يعني بالنسبة للمركز خروجاً من سوريا والوطنية وعليهما؛ فلا سياسة ولا اقتصاد ولا اجتماع ولا حتى منهج تربوي او مسلكي أو حتى أخلاقي إلا الذي ينص عليه المركز : لا رأي ولا ذوق ولا ذائقة إلا إذا كانت منسجمة مع مزاج وهوى وإرادة صاحب الرسالة الإعلامية الحصري . حتى القضايا الوطنية والتاريخية تصبح معدومة القيمة إن لم توضع بسياق وطنية وتاريخية المركز وتشيد وتعزز موقف وسمو ” سيد الوطن “.
الأغرب والأكثر تطوراً مما تعبقرت به قدرات الغوبلزية وأسيادها أن “سوريا الأسد” لم تقم بوضع اليد بالمطلق على الرسالة الإعلامية فقط، بل أطبقت الإحكام بطريقتها على قطاعات الثقافة والتربية والتعليم من سن مبكر حتى اكتمال برمجة “الوعي” للمواطن السوري . أما الأغرب من كل تلك البرمجة العقائدية الإيديولوجية والوعي الزائف فكان المَنهجة المادية المعيشية الاقتصادية التي حوّلت المركز ذاته إلى سلة العيش أو الأصح (الإعاشة ) رابطة نسبة هائلة من المجتمع السوري فيها مباشرة .
أضحى الموات والتصحّر المجتمعي ذهنياً ومسلكياً بلا ضفاف وفي كل المجالات؛ ليصبح الخروج عن المنهج المنصوص ضربا من الشذوذ . وما كان أمام الملايين الثائرة على هذا الخبث الدكتاتوري إلا التواري أو الصمت والصبر الجميلان؛لأن عكس ذلك مصيره القبر أو القبو أو الغربة.
ذلك الإطباق الممنهج على العقل والروح السورية أتى أوكله لسنوات بالنسبة للنظام الذي بقي مطمئناً حتى بعد رحيل الأسد الأول إلى أن تلك الروح السورية خامدة وذلك العقل السوري مدجن وفي حالة موات اشتغل عليها النظام لسنوات.
لم يدرك النظام أن تلك التحصينات المزمنة والجدران الشاهقة؛ التي أشادها حول الروح السورية والعقل السوري والحرية السورية ، والتي عزز سحقها بيد بطش امنية؛ قابلة للتبخر بفعل تشابه أهل سوريا مع طائر الفينيق وبفعل عظمة خلاياهم وبسبب التطور التقاني المذهل لوسائل الإتصال التي حوّلت الكرة الأرضية إلى رسائل إعلامية كالهواء تُبَرمج الدماغ البشري بطريقة تتناقض بالمطلق مع طريقته البرمجية المريضة البائدة.
يستدل المرء على حال النظام وكيف ينظر إلى أهل سوريا من اول مقابلة اجراها رأس النظام مع صحيفة وول ستريت جيرنال(شباط 2011) عندما سألته عن احتمال الحراك الشعبي في سوريا ؛ ليجيبها مطمئناً بأن شعب سوريا يختلف عن الآخرين؛فهو بالتأكيد يظن واهماً أن ما فعلته أيدي أبيه وأيديه قد ضمن لهم موات شعب سوريا . الأغرب ان هذه الدهشة الصاعقة لاتزال قائمة متمثلة بعدم التصديق والانفصام والانفصال عن حقيقة ما يحدث في سوريا، وأكثر ما تتجلى بخطاب السلطة الخائب القائم الان.
فجاة وجد النظام نفسه عاجزاً عن استيعاب ما يحدث في سوريا. لقد كان يظن واهماً أنه لا يمكن ان يتم الخروج على طاعة برمجتها المزمنة لأدمغة السوريين؛ ومن هنا وصفهم في اول خطاب أمام ” مجلس الشعب ” بالجراثيم . لقد وجد نفسه فجأة امام أناس لا مكان لبرمجته المريضة ولا لرسالته الاعلامية في ادمغتهم . تبدت هذه المفاجاة وهذه الصدمة أكثر ما تبدت في إعلامه لأنه الصورة التي تعكس خلجاته. ظهرهذا الإعلام بداية خالي الوفاض مشتت ومربك ومهزوم أمام هول الصدمة . لم يجد بحوزته بداية إلا تلك الرسالة التقليدية الممجوجة التي فقدت مصداقيتها منذ عقود رغم مكابرته وتجاهله لذلك، مستنداً إلى فائض قوته البطشية التي ظن بأنها كفيلة بتسويق ما يريد عنوة واستخفافا بالشعب ؛ ومن هنا أتت كلمة ” جراثيم ” . فمقابل صرخات المتظاهرين الهاتفين للحرية والكرامة والوحدة والإصلاح ، لم يكن امامه إلا فبركة ادواته الجاهزة مركزاً رسالته على جملة مفردات بغيضة وسطحية ساقها على الدوام في وجه كل من يخالف توجهه الاشوه والمتمثلة بـ ” المؤامرة ” و “الطائفية ” و”المندسين” و”الإرهابيين” و”التكفيريين” …..الخ. كانت تلك بداية الانفصام عن الواقع ورفض الأقرار بما يحدث في سوريا ، وحتى الآن لم يخرج من ذلك العمى . لقد حدث تماهياً مرعباً بين الرسالة السياسية والرسالة الإعلامية ، فصار الرئيس يخرج على الناس بخطاب او مقابلة ليلخّص لهم نشرات اخبار وتحليلات قنواته ؛ وصارت تلك القنوات بدورها تعود لتجتر ملخصه ثانية.
لقد كان الإعلام هو المؤشّر الأساس لما كان عليه موقف االنظام . انتظر كثيرون ان يروا اي علامات تدل على أي تغيّر بالموقف عبر خطابه ؛ ولكن ذلك لم يحدث. اتخذ قراره الاحمق بالحل الأمني الذي لا بد وأنه وجد أن لا خيار امامه إلا ذلك ، لانه يعرف بدقة ما فعل بسوريا وأهلها ، فكان عليه أن يستنجد بصربة من الافاكين والمظللين لحمل رسالته الاعلامية الجديدة وأتت حملة الانقاذ بقيادة ” غوبلز قنديل ” وامثاله، مدعومة بتقانات واستشارات ايرانية ، وبما اصطُلح عليه بالجيش الالكتروني ليعبثوا من جديد بحقيقة ومصير سوريا واهلها. رافق ذلك استنفار واستشراس لقنوات صُمّمت أساساً بطريقة بوقية وتحت يافطات “مقاومتية” إضافة إلى بعض المؤسسات الإعلامية العالمية التي يسهل استمالتها تحت يافطة “التوازن” فتكسب وتريح الأصدقاء القدماء !!! يكفي أن يسوّق ذلك الإعلام إن ما يحدث في سوريا هو “حرب أهلية على أسس طائفية” حتى ينسف حقيقة ما يحدث في سوريا ويكرّس ذريعة تخاذل المجتمع الدولي وتآمره على الشعب السوري . لا بد وأن النظام ممتنٌ تماما للـ BBCو France 24 و Sky news وCNN لأدائها “المتوازن جداً”
ذكرنا اعلاه أن المفاجأة كانت صاعقة عند اندلاع الحراك في سوريا ؛ فما معنى ان يقول الرئيس شيئاً متيقناً منه لتلك الصحيفة ، ويحدث شيء آخر؟! أُخٍذَ إعلام النظام على حين غرة ؛ وجد نفسه مكشوفاً عارياً بلا رسالة؛ فلم يجد أصحاب القرار الأمني إلا إغلاق أبواب سوريا على الإعلام الخارجي ؛ ولم يجد إعلام النظام إلا الهجوم والشتم والردح وتوجيه السهام المحبَطة تجاه الإعلام الخارجي ( ” الدموي ، التحريضي ، التجيشي ، العميل، المتآمر” ). لم يقدم حقيقة مايجري في سوريا كي يثبت أن الإعلام المعتدي يكذب ؛ بل قدّم رسالة تنكر مايحدث وتكتفي بالقول إن الآخرين يكذبون ويلفقون ؛ ويأتي بخبراء ومحللين سوريين ولبنانيين لا يحيدون عن الرسالة الإعلامية الأمنية قيد أنملة ؛ وكانت رسالة هؤلاء على الإعلام الخارجي هي ذاتها فاقدة اي قيمة اوجدوى مكرسة غياب المصداقية . اما الإعلام الآخر فكان يأخذ شهوداً ميدانيين يقدمون ما يشاهدون مدعماً بصور تلفزيونية عبر ادوات اتصال بسيطة جدا مستعينا بمحللين يحاكمون مايجري ؛ لتكون مهمة إعلام النظام بعدها الإنشغال بتوصيف الناقلين الميدانيين بأقذع الاوصاف ورشق التهم للمحللين وللقنوات الناقلة ؛ وليبدأ أيضاً بعد ذلك بفبركات مسرحية رديئة الإخراج فاقدة لأي مصداقية مما فاقم وضع مصداقيته المهتزة سلفاً . قال مراقبون إعلاميون وقتها إنه حتى لو كان ذلك الإعلام الخارجي يكذب ويلفق إلا انه كان يفعل ذلك بحرفية وذكاء بعيدة كل البعد عن الطريقة البدائية التي ميّزت إعلام السلطة. ولا يعود ذلك إلى العاملين لأن معظمهم ذوي خبرة ومؤهلين لصناعة الرسالة الإعلامية الصح؛ ولكن لا رأي لهم بذلك. وفي مقاربة المسألة السورية ؛ تركزت الرسالة الإعلامية للنظام على كل شيء ، وناقشت كل الأسباب وركزت على كل أنواع الحلول باستثناء أمر واحد هو جوهر وحقيقة ما يجري في سوريا. للأسف حتى الآن ولولا أن ثلاثة أرباع سوريا خارج سيطرة النظام لما تم الاعتراف ان هناك مشكلة . بالمناسبة، في آخر فعل إعلامي للنظام أطلق أعتى الصواريخ الإعلامية بشكل مبالغ به على القصير،علّه يرفع معنويات تدهورت . سيجد النظام نفسه في حالة خواء إعلامية مرعبة عندما يحدث العكس . حاله كحال الذي يرمي طيراً بصاروخ سكود، وفيلاً بكعلة دابة. وهذا سر من اسرار لاتوازنه.
في الضفة الاخرى لا بد للمرء من أن يرفع القبعة لأولئك الشباب الذي استخدموا أبسط وسا ئل الاتصال ليتحول كل منهم إلى محطة إعلامية متحركة ليكونوا ثورة إعلامية وإعلاماً للثورة . من جانب آخر؛ لا يتوقع أحد ان يكون الإعلام الخارجي ، عربياً كان ام اجنبياً، مغرماً بسوريا واهلها ؛ او انه جمعية خيرية أو رابطة انسانية؛ إنه إعلام له مصلحة وله اهداف وإجندات منها السياسي ومنها المادي، فدون جاذبيةٍ (مادتها، الاحداث المثيرة والدموية والتراجيدية)، وبقاءٍ (أساسه، الإعلان والسياسة )، ومهنيةٍ (مهمتها، تعزيز المصداقية) ، لما غاص ذلك الإعلام بمستنقع الأحداث السورية. ومن هنا توّهم النظام بانه دحر امبراطوريات إعلامية ، دون ان يدري أن ذلك الإعلان عن دحرها هو بحد ذاته إعلان لها . لم يدر النظام انه برسالته الإعلامية الصادقة فقط يمكنه أن يدحر اكثر من امبراطوريات . الكذب لا يدحر الكذب ؛ تماما، كما الظلام لا يزيل الليل.
وفي الضفة الأخرى ايضاً، لابد من القول إن بعض إعلام الثورة لم يكن بالسوية التي تستحقها تضحيات أهل سوريا. لقد خدمت بعض الرسائل الإعلامية التي حرّضت وجيّشت طائفيا، بقصد ام بغير قصد، كل من أراد ان يتناول الحراك السوري بسوء . لم ينتظر احد فتح دكاكين إعلامية ليغرد فيها كل على ليلاه وكأن الثورة مئة قبيلة. لا ادري إن كانت تلك مشاريع إعلامية للبيع والشراء مستقبلاً كمشاريع استثمارية . المشاريع و”البزنس” أمور لا تنسجم مع الثورة والعقل والفكر الثوريان . لا تجارة بالثورة الحقيقة. أي شيء من هذا القبيل هو تجارة دم . المطلوب ليس إلا الرسالة الشريفة المتوازنة الناضجة الوطنية البعيدة عن الانانية والاستئثار والإقصاء ؛ إنها الرسالة التي تبني لا تهدم ؛ توحد لاتفرق ؛ تلك هي الرسالة ذات المصداقية التي تؤسس لسوريا المستقبل.
إن أهم رسالة إعلامية غفل عنها إعلام الثورة كانت تلك التي تحمل تقديم سوريا المواطنة للجميع ، سوريا المستقبل بلا اضطهاد وعبودية ؛ سوريا المشروع المستقبلي المبني على أسس واضحة سليمة واثقة . لقد كان لذلك الغياب تبعات مؤلمة ومعرقلة للثورة داخلياً وخارجياً . لقد كانت العبارة الأقوى لمنتقدي الحراك او المعارضة او الثورة بان لامشروع لديها . لقد اثّر ذلك على كل دعم خارجي حقيقي محتمل للثورة وعلى الثقة بها وبأهلها . قد يقول قائل إنه كان هناك اولويات تتمثل بالدفاع عن الثورة وبفضح النظام ؛ الدفاع صحيح ، ولكن تقريع النظام وذمه وشتمه لم يهزه ؛ فمن يداه ملوثتان بالدماء لا يضيره رشه بالماء . الاخطر من كل ذلك أن النظام بعد ان تمالك نفسه استطاع في بعض الجوانب ان يسحب خطاب المعارضة الى ساحته الاعلامية الخبيثة الطائفية التحريضية التجيشية. تستحق سوريا إعلاما يعكس صورتها الكريمة الواثقة الموحدة بأهلها ؛ سورية بلد المواطنة والقانون ؛ سوريا الحرة