من يتابع الصحافة اللبنانية وبعض بيانات المنظمات الإنسانية والديمقراطية ومؤتمراتها، يلاحظ عشرات أسماء الكتّاب والمثقفين والناشطين السوريين ممن لم يُسمع بواحد منهم قبل خمس سنوات. فباستثناء تاريخيي المعارضة السورية كرياض الترك، بدت هذه الأسماء كأنها اكتشاف للسوريين، أو على الأقل لفئة منهم كان يلفّ المعرفةَ بها الجهلُ والغموض. والحال أن الأمر يصح فيه وصف “الاكتشاف”، لأن معظم أصحاب هذه الأسماء كانوا في السجون. إلا أنه، مع هذا، يحمل دلالة أبعد. فطوال سنوات مديدة اختُصرت سوريا في رئيسها وبعض رموز نظامها كالسيدين عبدالحليم خدام وفاروق الشرع وعدد من عقداء الجيش المتنفّذين. وقد بدا أنه ما من متسع لأصوات أخرى شعبية وثقافية، مهنية ونقابية، أهلية ومدنية. فالنظام وحده ما يساوي الوطن، وكل ما عداه لزوم ما لا يلزم. وإذا ما كان من سمات الأنظمة العسكرية العقائدية أنها تحجب مجتمعها وتختزله فيها، فهذا ما شرع يتغير في السنوات القليلة الماضية. وجاء الاحتلال الأميركي للعراق خصوصاً تحدياً صارخاً ومباشراً، لا سيما أن مسافة كليومتر واحد فقط تفصل بين الحدود السورية-العراقية وجنود العم سام.
وتأتي العقوبات الاقتصادية الأميركية تتويجاً لوضع اقتصادي مأزوم أصلاً، فضلاً عن تبرم عام بالعيش في ظل حالة طوارئ مدة 41 عاماً متصلة. فالفقراء في سوريا، بحسب أرقام بعض ناشطي حقوق الإنسان، أكثر من أربعة أخماس الشعب. والذين منهم يعيشون تحت خط الفقر أكثر من نصف السكان، بينما يُقدر أن 4 في المئة فقط يستحوذون على 85 في المئة من ثروات الوطن. وقد بلغ المعدل الوسطي لدخول الفرد في سوريا قرابة 1100 دولار سنوياً، إلا أن حصة الفرد من إجمالي الناتج المحلي هبط بين عامي 1980 و1997 بنسبة 16 في المئة، وانتقلت نسبة متوسط نمو الفرد من الناتج المحلي إلى السلب “أقل من صفر”. كذلك تعاظم الدين الخارجي وارتفع متوسط نسبة العجز في الميزان التجاري إلى 45 في المئة، كما تعدى العاطلون عن العمل المليون شخص أغلبهم دون الثلاثين عاماً.
وإلى العجز المتمادي عن استعادة الأراضي المحتلة في الجولان، ضمت أوروبا صوتها إلى الولايات المتحدة في خصوص الإصلاحات، وهو بدوره ما ينعكس مزيداً من التردي على الوضع الاقتصادي. فمفاوضات دمشق مع الاتحاد الأوروبي، وفقاً لإعلانات برشلونة، تقتضي إجراء تغييرات أساسية في بنية الدولة وأجهزتها. وهذا ما تطوّقه الأولى التي لا تريد الإقدام عليه، بتأجيل متواصل للمفاوضات.
فوق هذا، كشفت سوريا عن مشكلات برز منها الموضوع الكردي حتى الآن، وجاء بروزه على نحو صارخ دلت إليه مواجهات القامشلي في الشمال الشرقي وما استتبعها من اعتقال الآلاف. والكلام عن هذه المشكلة المستفيدة بالطبع من التغيرات التي طرأت على العراق، يطال عدداً ربما كان يفوق المليوني نسمة تعرّض بعضهم للتهجير وإحلال عرب غمرت مياه نهر الفرات قراهم محلهم، فيما حُرم بعضهم الجنسية السورية. فإذا أضفنا انتقال مشكلة حقوق الإنسان إلى العلن بعد التظاهرة الرمزية التي اعتقل الناشطون القائمون بها، وتجذّر المعارضة المسيحية اللبنانية بوصف لبنان امتداداً لنفوذ السلطة السورية، وجدنا أنفسنا أمام عملية اكتشاف فعلية.
وما يجعل الصورة أكثر درامية أن النظام السوري غير معتاد إطلاقاً على التعامل مع أوضاع كهذه كما أن النوايا الإصلاحية المنسوبة إلى الرئيس بشّار الأسد صارت أقل قدرة بما لا يقاس على تهدئة المشكلات والتحديات والمطالب المتدافعة والمتسارعة.
إلا أن الصورة إياها بالغة التشوش أيضاً، ذاك أن التناقضات التي تواجهها السلطة لا تؤول إلى وجهة واحدة، إن لم نقل إنها بذاتها متناقضة متضاربة. فالمعارضة السنية، أكانت منظمة أم عفوية، يصعب أن تلتقي في الأساسيات مع المعارضة الوطنية الديمقراطية ذات التوجه العلماني. وهذه الأخيرة يصعب أن تلتقي مع المعارضة الكردية، لا سيما إذا غلب عليها اتجاه استقلالي (أو انفصالي بلغة خصومها). ثم إن المعارضات الثلاث معاً، وخصوصاً الأوليين، لا تجتمع على قاسم مشترك عريض مع المعارضة المسيحية اللبنانية بزعامة الجنرال ميشال عون ومقربيه في الولايات المتحدة الأميركية.
أبعد من هذا، أن السلطة بمصادرتها الطويلة للمجتمع السوري إنما ردّته إلى مكوناته الأولية والأصلية، وكادت تعدم قدرته على توليد حركة مستقلة خاصة به تكون على نطاق وطني. لهذا قد يصح في سوريا ما يصح في العراق من أن سقوط النظام لا يترك للمجتمع إلا الاقتتال المفتوح أو الوقوف على شفير ذلك. فنحن حين اكتشفنا العراق الذي كان يحجبه صدام، اكتشفنا أيضاً السنة والشيعة والعرب والأكراد، وهم على أهبة الاقتتال.
ووضع كهذا هو بالتأكيد ما يستغله البعث الحاكم في دمشق للقول إن أي تحرك لابد من أن يدمر المجتمع، فضلاً عن اتهام المتحركين بـ”العمالة” للخارج، وتحديداً الولايات المتحدة. وغني عن القول إن هذه الحجج تنطوي على حمولة انتهازية ثقيلة، لأن النظام المستعد لبذل الغالي والنفيس لإرضاء واشنطن، والذي التف على “ربيع دمشق” وخنقه بُعيد رحيل الرئيس حافظ الأسد، هو المسؤول الأول عن إيصال الاحتقان إلى هذه المرحلة المتقدمة.
مع هذا كله يبقى أن المشكلة ليست بسيطة ولا سهلة. وهذه هي الرسالة التي حاول أن يوصلها الكاتب السوري المعارض ياسين الحاج صالح المتخوف من أن يكون تراخي قبضة السلطة إشارة إلى تراخي أي تماسك مجتمعي في المستقبل. ذاك أن “العمل المطلوب من المعارضة (…) أكبر بكثير من مواجهة السلطة وأهم بكثير من مسألة السلطة أصلاً. إنه بالأحرى مواجهة الرأي العام بخطورة الأوضاع في البلاد وحولها وبضرورة الخروج من هذا المأزق بأعلى درجة من التماسك الوطني وبأقل قدر من الخسائر” (ملحق “النهار” اللبنانية 21/3/2004).
فاكتشاف سوريا والسوريين قد ينتهي، لسوء الحظ، اكتشافاً لمعضلة من عيار تاريخي. ذاك أن الأنظمة الديكتاتورية والتوتاليتارية تستطيع، في آن واحد، أن تفسد الماضي والحاضر والمستقبل: الماضي بأن تزوّر كتابته، والحاضر بإخضاعه للفقر والقهر، والمستقبل بجعله رهين التهديد بالحرب الأهلية والفوضى الشاملة التي تصير هي، لا الديمقراطية، بديلاً لسلطة الاستبداد العسكري والفئوي.