“بلاد الثورات الأربع” سورية.. لماذا نجحت “المؤامرة”؟

بعد عامين على حرب الأعصاب والاعتقالات والكلمات الطائفية والرصاص والسيارات المفخخة والإعدام الفردي والجماعي، يمكننا اختصار المشهد في سورية بالتالي: -أنت مع السلطة وروايتها، “إعلاماً، تحليلاً، معارضة وطنية”، أنت عميل للنظام و”شبيح” تقتل شرعاً، أنت من مريدي المعارضة المسلحة وثورتها أنت إرهابي واجب استئصالك من الجسد الشعبي حتى لو مات آلاف الأبرياء، أنت من أنصار التغيير السلمي الديمقراطي، أنت شخص مهدد بالموت أو الاعتقال على يد أحد الطرفين-، هذا المشهد يطبع المتغيرات المتلاحقة، في ظل معزوفة الحوار الوطني الذي طرحته السلطة بداية تضخم الأزمة وانفتاحها على آفاق جديدة، ثم سيمفونية الحل السياسي الذي طرحه العالم لغاية الاستهلاك الإعلامي وقتل ما تبقى من سورية وشعبها، وسط تطورات دراماتيكية عسكرياً فرضها إيقاع العنف والعنف المضاد، وطبيعي بموجب هذا أن يكون لكل طرف من الجولات نصيب وإنجاز، كما طبيعي أكثر أن نصف الشعب السوري إن لم تكن غالبيته الساحقة، يعرفون حقيقة الصراع الدائر وأسبابه، ولا يحتاجون لاجتهادات هذا أو توصيفات ذاك، كما أنهم لا يحتاجون تقارير الأمم المتحدة أو أية منظمة حقوقية ليدركوا أن النزاع يقود البلاد إلى الانهيار والتقسيم بعدما تحول إلى حرب مفتوحة على كل الاحتمالات، ينتهك خلالها المتخاصمون حقوق الإنسان وتحدث فيها جرائم بأبشع الصور، لكن ما يثير الدهشة هو التعتيم المقصود على الحقائق والتجاهل المتعمد لأي حل يتناسب وخصوصية البلاد من قبل الأطراف كافة.

رفعت السلطة شعار المؤامرة سبيلاً للمواجهة، والعارفون بدهاليز السياسة والاستراتيجيا يدركون جيداً أن هذه الفرضية ليست براءة اختراع لاسيما في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً أو حتى دول العالم الثالث عموماً، حيث كل أزمة داخلية هي مشروع تدخل خارجي بالضرورة إن خرجت عن نطاق الحل بالأدوات الذاتية، وهذا الأمر يدخل بشكل أتوماتيكي عالم المحرمات التي لا يقبلها أي سوري شريف، كما لا يمكن لأي سوري شريف آخر القبول والصمت عما فعلته وتفعله السلطة سابقاً ولاحقاً في تعاطيها مع الأزمة، الخلاصة: لا حياة لصوت العقل والمنطق، لا مركز ولا وسطية في هذه المأساة، يريدوك المتحاربون حاملاً السلاح، مجرداً من الإنسانية، مقاتلاً مع هذا الطرف أو ذاك، ودون شك نجاح فرضية المؤامرة أو فشلها في التأثير على مجريات الوضع الداخلي يتوقف على آلية التعامل معها كحالة إشكالية، لا يلغي إمكانية حصولها بل التخفيف من هولها وتطويق ارتداداتها، وسورية لم تكن استثناء عن ذلك فقد تحولت أزمتها لأرض خصبة للتآمر بدليل ما تابعه العالم أجمع من تحولات على يد شقيق أو جار حدودي أو موقف دولي بغض النظر عمن أدخل اللص إلى البستان السوري بعدما خدّر الناطور وأغرى الحراس بعنب أشهى وأطيب –تحدثنا عنه بإسقاط سياسي في مقام آخر-، وبغض النظر أيضاً عن شعارات كبيرة يرفعها موالون لنهج السلطة أو معارضون وطنيون لهذا النهج من أمثال “الخيانات في هذا المفصل من الدولة أو تلك بما فيها المؤسسة العسكرية”، ولطالما تمنيت أن أجد إجابة على سؤال بريء: ما دام الفساد يأكل البلد والخيانات الداخلية “مدنياً وعسكرياً” تحاصره من كل الاتجاهات، وكل كارثة وطنية تجد من يبررها بسرعة الصاروخ فكيف ستواجه هذه المؤامرة، وكيف لسورية أن تنجو من براثنها؟ الجميع يراهنون وسيبقوا كذلك حتى تصبح سورية على هذه الصورة “س،و،ر،ي،ة”، المهم في هذه المؤامرة “الكونية أو الكوكبية كما يحلو للبعض تسميتها”، أنه ما كان لها هذه الفاعلية لولا آلية تعامل السلطة معها -وما خفي منها كان أعظم والأيام ستكشف عن فواجع وطنية بالجملة- ما يعني بالضرورة اعتراف السلطة بمسؤولية العجز عن أداء الأمانة الوطنية بموجب تنصيبها لنفسها حامي كينونة الدولة وصائن مقدساتها وباعث قيامتها من الدمار، لا أن تراوغ في هامش سياسي بحكم القوة العسكرية والخوف الشعبي من المجهول علماً أن الطريقين مسدودان أمامها إن استمرت بهذه العقلية ولن تكون النهاية بحجم تصوراتها أو تصورات من يرهنون النتائج بتغير المواقف الدولية لأن النظام العالمي الجديد أطلق قواه في عجلة الزمن، ولن يسمح لهذه العجلة بالتوقف أياً كانت الأسباب حتى لو لجأ للموت السريري على الموت بالطرق التقليدية -وهذا ما يفعله حالياً في سورية وغيرها-، وحساباته لا تقاس بالأشهر أو الأعوام بل بمجموع المتناقضات التي تفرزها مفردات كل مرحلة يريد من خلالها طرح الحامل الشرعي لمنتجه حتى لو تنافى مع قيم عصره السابق أو اللاحق، وبالتالي آخر اهتماماته هي مصير الشعوب وحقوقها وكرامتها بنفس القدر الذي لا يهتم فيه بمصير أنظمة قد تتسبب أخطاؤها في سجلاته المستقبلية بخلل إجرائي أو مساءلة ترتقى لدرجة الاتهام أو المحاسبة، وفي الوضع السوري لو جاز لنا التغاضي عن فساد ينخر في بنية السلطة السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية -أحد عوامل نجاح المؤامرة دون جدل-، فكيف يمكن لنا إعفاءها من سطحية سياسية وإعلامية في التعاطي مع متغيرات تعصف بالعالم لم تحسن التكيف معها أو حتى مجاراتها، ناهيك عن أن الصورة التي آلت إليها أوضاع البلاد داخلياً كانت حديث اللسان الوطني وتوقعاته قبل اندلاع الأزمة وخلالها، وكل هذا دون جدوى فاليقين شبه المطلق بعدم قدرة السلطة الحالية على إصلاح ذاتها أصبح واقعاً كواقع كارثة التقسيم –معنوياً- وما نخشاه أن يصبح مادياً، ولمن يؤمنون بالواقعية يعلمون أنني أتكلم الواقع وليس للتهويل و”وهن شعور الأمة”.

في المقلب الآخر لا يمكن القول أن ما عاشته وتعيشه البلاد هو ثورة وفق القوالب المعروفة للثورة وأنماطها، بل هي اجتماع عوامل اضطرابية ضبابية اعتمدت خلالها وسائل الإعلام عربياً وعالمياً منذ البداية “حرب الصورة” نهجاً قام على الشحن العاطفي والآمال العريضة ثم تضليل الرأي العام بعد جمود وصل بالناس إلى أقصى درجات الإحباط لتصحو فجأة على تغيير انحرف عن مساره فتحول لتمرد حتى الموت “الانتحار الطوعي بدوافع مختلفة”، وأظن علماء نفس السلوك واختصاصيه أدرى مني بهذه الجزئية، المهم اجتمع هذا العامل وغيره من عوامل بشكل تصادمي فولد انفجاراً غير مسبوق، انفجار قلب الباطل حقاً والحق باطلاً وخلط الحابل بالنابل، فأنتجنا من فضل السماء علينا أربع ثورات على مدى عامين بخطوط متوازية، ولكل خط أنصاره 1- “ثورة الحرية والكرامة” –بدأت كانتفاضة مواطنة ثم توفيت بعدما لعب السلاح بقدرها وتولت “هيئة التنسيق” الاحتفاظ بجثتها تحت المسمى السابق، 2- ثورة الدولة المدنية بقيادة المجلس الوطني من اسطنبول-، الإخوان المسلمين، الائتلاف لاحقاً، 3- ثورة الإصلاح بيد ومحاربة الإرهاب بأخرى “حركة تصحيحية ثانية تخلى بموجبها حزب البعث خارجياً عن نظرية “الحزب القائد”، وسيضطر بعدما نضجت الظروف لجراحة داخلية يتكئ بها على تحالفاته والحاجة الشعبية لجزيرة أمل وسط بحر الموت، أما الثورة الرابعة فهي ثورة الخلافة الإسلامية التي تقوم عليها جبهة النصرة لأهل الشام ومن “يهاجرون” مجاهدين إلى سورية حباً في الله ودين الإسلام والجنة، وطبعاً الثورة الرابعة هي الأكثر تأثيراً لسببين: تستمد شرعيتها من الله، 2- تتقاطع بشكل أو بآخر مع ثورة “المجلس الوطني” وباقي مكونات “الائتلاف”، لتصبح في النتيجة “ثورتين بواحدة”، واليوم بغض النظر عن ثورة التنسيق و”لاءاتها الثلاث” التي شابها بعض الغموض بعكس أدبياتها، وبغض النظر عن ثورة تصحيح السلطة وسلبياتها وفق مبدأ العبقري كارل ماركس، فإن ثورة “الائتلاف” وتجلياتها القاعدية ودفاعها عن جبهة النصرة لأهل الشام، موضع تساؤل فلصالح من يتم تدمير سورية وانتشار ثقافة الذبح ولغة السحق والمحق والحرق و”المناطق المحررة”، وإطلاق العنان للقضاء الاجتهادي المخالف لمعايير القوانين السماوية ونصوص القوانين الوضعية، أليس في هكذا ثورة انقلاب مفاهيمي للأسفل بغية هدم كيان الدولة وفي أدنى نتيجة إحداث صدع عامودي في بنيانها ثم إعادة إنتاج أجزائها بعقلية ما قبل عهد المواطنة والدولة، -طبعاً من يقل بهذه الفرضية يقتل شرعاً حتى لو كان ضد السلطة، ومن جهة أخرى بما أنه ضد السلطة فهو مشروع معتقل-، المهم في مفارقة الثورتين المجتمعتين بواحدة أنها تخطت حدود المنظومة الحاكمة ووقفت وجهاً لوجه أمام شعب مهدد بفقدان مقومات وجوده الكلية، ما انعكس إيجاباً لصالح السلطة – مرحلياً- وأعطاها نقاط قوة لم تكن تحلم بربعها لو استمرت قوى التغيير السلمي بطرحها الوطني والديمقراطي، وفي الوقت نفسه منح النزاع بصيغتيه المتناقضتين شرعية القتال حتى الموت تثبيتاً لقيم أصبحت بحد ذاتها محل جدل، في حين راوحت “ثورة التنسيق” مكانها، محتفظة بأصوات معتدلة ترفض العنف، وفي نفس الوقت تضم مكونات “تميل حيث الرياح تميل”.

تراوغ السلطة من خلال وجهها الإعلامي، ومطلوب مني أن أصفق لها فاغر الفم والعينين وهي تطرح عبر وسائلها ما نسيه الناس من عام على الأقل، تطير مراسلات الفضائيات السورية على اختلافهن واختلاف تابعيتهن كالعصفورات خلال تغطيتهن أخبار المعارك وعلي أن أفرح لمنجزات ابنة البلد الحربية، كل إعلامي من فضائياتنا الممانعة مشروع تجمع مستقل له أنصاره ومحبوه ما دام يصب منتوجه في القناة الأم “السلطة”، كل منهم يظن نفسه يخدم القضية من منبر السيادة والمنعة فكيف تجادل من يخاطبك على أنه نخبة المجتمع بثوابت ومبادئ يؤمن بصحتها حتى الاختناق، وكل ما يخالفها في البيان لا في النتيجة هي طروحات تآمرية، وفي أحسن الحالات نتيجة لصدمات إنكارية من واقع بائس، وكأن البلد كان يعيش حرية التعبير سياسياً وإعلامياً قبل أن يزوره طاعون المؤامرة، والملفت في أؤلئك انتماؤهم لتيار سياسي واحد، وفي حال كان بينهم تنوع سياسي فهم مجتمعون على خطاب واحد، وعندما تعترض على أدائهم التدميري إنسانياً لا مهنياً يحاججك هؤلاء “الوطنيون” بثقة عجيبة بذات الطريقة التي أقصت أو نفت أو هجّرت كل عقل وطني، هي الديكتاتورية بألعن صورها، وأبسط سلوكياتها، هي ما ساهمت بنسبة 60 في المئة فيما وصل البلد إليه، وكل من ينتقد “التخريب والتدمير” الذي يفتعله هذا “الإعلام العروبي النابض” متهم سلفاً بأنه أسير حرية فضائيات التحريض الطائفي والمذهبي وفضائيات الأجندات السياسية المسبقة. “لنا وقفة مطولة مع هذه القضية لاحقاً”.

بعد عامين على بلاد الثورات الأربع، تناثرت المؤسسة العسكرية كقطع الزجاج في أنحاء البلاد وتحت ترابها، تفكك المجتمع المدني بشتى أطيافه، وفي سريرة كل فرد سوري داخل الوطن وخارجه تشتعل نيران الإقصاء والرغبة بالتهام الآخر، لا حواره أو استيعابه، دمرت نفوس الناس وعقولهم واحترقت قلوبهم، انتشرت الطائفية كالأوكسجين وغدا القتل كإشعال السيجارة، شلت المراكز الخدمية والاجتماعية، أصيب الاقتصاد بتراجع وانهارت قيمة الليرة، ربع الشعب مهجّر داخلياً أو خارجياً، اغتيلت العقول العلمية والدفاعية، وكل رأس سوري يطاله “الظلاميون” فموعده قريب مع القطع، ومن استطاعوا إلى ضريحه وصولاً فحتماً سينبشون قبره، ليحاسب على ما اقترف عقله التنويري أو نبوءاته الشعورية من آثام علمية أو إبداعية في عصره، دخلت إسرائيل بجواز سفرها الحربي ربوعنا وخرجت سالمة، صار المرء يخشى الخروج من شارع إلى آخر، وإن لم يمت بالرصاص فسيمت بسيارة مفخخة، صار المطلوب لخدمة العلم الإلزامية أو الاحتياطية يودع أهله وكأنها المرة الأخيرة التي يراهم فيها، والمؤسف سيموت على أرض سورية، صارت المرأة “صدى زنوبيا” متوفرة كالماء في أي مكان وبنسخ متعددة ومطوّرة، وبعد هذا يأتيك جواب الحالمين بالنهوض من تحت الرماد، وحقيقة لن يكون هذا النهوض ما لم يقترن بمعالجة الجرح قدر ما تركت مساحة الطعنة الأخلاقية والوطنية في الجسد السوري وليس مجرد الأماني ورفع الشعارات الكلاسيكية الجامدة من كل أطراف النزاع بلا استثناء، كي لا يظل السوريون أمام حكم الإعدام السياسي “الوطني” بالتقسيط أو حكم الإعدام الفوري على أيدي مجاهدي العقلية القروسطية ودعاة نقل النزعة العنفية من دفاع عن النفس إلى دفاع عن العقيدة، ومنح صكوك الغفران أو شهادات الجنة والنار.

للمثل وليس للحصر، هل كان أبو العلاء المعري-المحنط- في فكره ونبوءة عصره بعثياً أم أسدياً، هل أصحاب القبور والأضرحة المتصوفون في حلب كذلك، هل معامل عاصمة الدولة الاقتصادية ومصانعها ومعدات الشركات النفطية والممتلكات العامة في مختلف أنحاء البلاد الأخرى ملك شخصي للسلطة أم للشعب، بالمقابل هل المعارض المناضل عبد العزيز الخير داعم للإرهاب كما وصفه موقع الكتروني يصنف نفسه بخانة المعارضة الوطنية، ولا تزال السلطة تنكر اعتقالها  له أو حتى معرفتها بمصيره، وهل باقي المعتقلين في سجون السلطة ممن عرف عنهم خطابهم المعتدل، دعاة إرهاب وتدمير للدولة، والغرابة كل الغرابة أن أغلب من أرهبوا البشر بسياستهم وإعلامهم وفسادهم وعسكرتهم وفنهم ثم ساهموا لاحقاً بطعن كرامة الدولة الحقيقية لا كرامة الدولة النظام، خرجوا من عباءة السلطة أو كانوا قبل تغريدهم خارج سربها يستظلون بظلها ويضربون بسيفها، وقريباً من هذا الطرح تظهر ممارسات غير إنسانية فرضها واقع الحرب القائمة بعضها من أفراد يقاتلون متشحين بلبوس الدولة، وبعضها من أنصار الثورة الإسلامية وتوابعها -من السوريين حصراً-، كل على طريقته ليخرج من يبرر للطرفين أفعالهما بحيث يستنتج المراقب الخارجي أن الغالبية العظمى من السوريين يريدون الخير لبلادهم وخلاص وطنهم من المحنة، فلماذا إذن لا يتفقون، ولماذا لا يتصالحون مع ذواتهم ويعترفون بالحقيقة؟ كم كان عظيماً مبدع الألم وأسئلة الوجود الكبرى الشاعر السوري الراحل نديم محمد عندما قال:  أيها المشفقون لا تلمسوا الجرح …. بصدري فتوقظوا كبريائي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *