بكاء في ذكرى باسل الأسد

كنا نُدعى، بعضُ الأصدقاء الأدباء وأنا، لإقامة أمسيات أدبية في المراكز الثقافية المنتشرة في المناطق التابعة لمحافظة إدلب، وأحياناً ندعى إلى مراكز ثقافية في محافظات أخرى.

وكنا نرفض تلبية أية دعوة تصادف في شهر آذار/ مارس تلافياً لمناسبة الثامن من آذار (انقلاب البعث 1963).. أو في نيسان أبريل، درءاً لشبهة الاحتفال بعيد ميلاد حزب البعث، (1947 أو في تشرين الثاني (نوفمبر) لئلا يضمنا المحتفلون بالحركة التصحيحية (16/11/1970) إلى قطيعهم..

وكنا نعتمد في رفضنا الاشتراك في هاتيك الأمسيات أسلوب المراوغة.. لأن المصارحة، في تلك الأيام، لم تكن تؤدي إلى بر الأمان.

مرة، دعينا، في شهر كانون الأول / ديسمبر، إلى أمسية في إحدى المدن التابعة لمحافظة إدلب.. ونحن نعلم أن هذا الشهر (نظيف) تماماً من المناسبات، فلبينا الدعوة بلا تردد.

كان يحضر أمسياتنا، في الأحوال العادية، خمسون شخصاً تقريباً.. ولكننا فوجئنا، أثناء دخولنا قاعة المركز الثقافي، بوجود عدد كبير من الجمهور، قد يصل إلى ثلاثمئة شخص، وبينهم، خلافاً للعادة، سيدات.. وفوجئنا، أيضاً، أننا لم نكن وحدنا، فثمة شاعر مغمور من أبناء المدينة نفسها، اسمه (مصطفى ق) قد أدرج اسمه معنا..

المفاجأة الأكبر كانت حينما صعد الأستاذ محمد مدير المركز وقدم للأمسية قائلاً إنها أقيمت بمناسبة مرور ثلاث سنوات على استشهاد الرائد الركن المظلي الفارس الذهبي باسل حافظ الأسد.. وقدم الشاعر (مصطفى ق) ليكون فاتحة خير في هذه الأمسية المظفرة.

التفت إلي صديقي الأديب الراحل تاج الدين الموسى وقال لي:

– تعرضنا لمقلب مرتب بطريقة لئيمة.. فإذا بقينا جالسين هنا ستتمرغ أسماؤنا بالوحل، وأنا شخصياً بدأت، من الآن، أذوب خجلاً من نفسي.. وإذا انسحبنا سنكون في الصباح ضيوفاً غير أعزاء على فرع الأمن العسكري، لأنهم سيعتبرون انسحابنا موقفاً سلبياً من ذلك الفتى الشهم الذي استشهد وهو يقود سيارته بسرعة 280   كيلومتر في الساعة على طريق المطار. ما رأيك؟

همست له: أسماؤنا نظيفة إلى درجة أن عشرين موقفاً فجائياً كهذا لا يستطيع تلويثها.. دعنا نتابع لنرى.

قبل أن يباشر الشاعر مصطفى ق بإلقاء قصيدته قال:

– الحقيقة يا شباب، أنا، يوم استشهد الرفيق الرائد الركن المظلي المهندس باسل الأسد، تأثرتُ كثيراً، لأن يد الموت قد اختطفته وهو في ريعان الصبا، وفي أوج العطاء.. فكان استشهاده خسارة للوطن العربي السوري والأمتين العربية والإسلامية في آن معاً..

وأثناء إلقائه للقصيدة، وهي مؤلفة من مئة بيت (عدا الفراطة)، حصل الموقف المضحك المبكي الغريب التالي: السيد مصطفى ق.. انفلت ببكاء مرير.. تَشَهْشَهَ، مسح دموعه، ومسح منخاره، وتمالك نفسه، واستعاد رباطة جأشه، وأكمل القصيدة، دون بكاء فعلي، ولكن، بصوت باك!

انتهى مصطفى ق من الإلقاء، ونزل عن المنبر، واتجه ليجلس على أحد الكراسي الشاغرة.. ووقتها حصل أمر مدهش آخر.. إذ دخل فريق الفضائية السورية الذي كان يقوم بجولة في المنطقة، وسمع بأمسيتنا فجاء يغطيها..

وبينما أنا أهمسُ لصديقي تاج:

– (الآن أصبحت فضيحتنا بجلاجل)!.. كان مصطفى ق يهمس لمدير المركز قائلاً: أيرضيك يا محمد؟ يرضيك أن أقوم أنا بكل هذه الجهود، وأبكي مثل الأرملة المقطوعة.. ولا تظهر صورتي غداً على الفضائية السورية؟.. أرجوك يا محمد، أبوس رجلك، دعني ألقي قصيدتي مرة ثانية.

لم يكن مدير أقل تفاهة من الشاعر، وسرعان ما استجاب لتوسلاته، وقدمه للجمهور مرة ثانية، موضحاً أن من حق مصطفى أن يحظى بنصيبه من (التصوير) أثناء القراءة!

ألقى مصطفى ق قصيدته مرة أخرى، وحينما وصل إلى موقع البكاء على الغالي باسل، لم تطاوعه الدموع.. حاول كثيراً، عصر نفسه، دون جدوى!!..ههنا شرع أحد الأصدقاء يمط جسده فوق جيرانه حتى وصل إلي وهمس في أذني قائلاً:

– ابن الكلب.. ماذا جرى معه؟ قبل قليل كان يبكي مثل أم ثكلت ابنَها.. الظاهر أن دمعته احترقت!.. تفوه عليه من بين الشعراء!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *