حزب البعث, عملية الاحتضار الطويل
أسعد أبو خليل:
غاب حزب البعث عن الإنتفاضة في سوريا, أو أنه غُيِّب لإمتصاص الغضب العارم. تشعر ان النظام يخجل من إرتباطه بالحزب الذي لا يزال—نظريّاً–يقود الدولة والمجتمع (نحو المجهول؟) غابت شعارات البعث السقيمة وغابت قياداته الهرمة والرسالة لم تخلِّد. الخطاب السياسي السوري تراوح بين إخوان وليبراليّة من جهة وبين وعود بالقمع والإصلاح من قبل النظام (نكاد نطالب بالعودة إلى قانون الطوارئ لأن الدماء السوريّة سالت أكثر بعد رفع حالة الطوارئ—في حالة جدّ طارئة.)
من ينكر أن حزب البعث العربي الإشتراكي لعب دوراً هامّاَ في الحياة السياسيّة المعاصرة في العالم العربي؟ من ينفي أن الكثير من مصطلحات الصياح والسباب العربي المعاصر مُستقاة من أدبيّات الحزب العريق؟ من يجهل الدور الذي لعبه الحزب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي: ليس في البطولات على أرض المعركة وإنما في إحراج جمال عبد الناصر ودفعه دفعاً—بالإشتراك مع العرش الهاشمي—نحو التهلكة في حرب 1967—من دون نفي المسؤوليّة عن النظام الناصري.
كُتب الكثير في الصحافة والأكاديميا عن هذا الحزب, وصورته اليوم هي غير ما كانت عليه في الماضي غير البعيد. من يتصوّر ان هناك في الجيل الجديد من ينضوي فعلاً طوعاً في صفوف هذا الحزب؟ هل من يظنّ أن هناك من شباب اليوم في لبنان مثلاً من يريد ان يهتدي بقيادة فايز شكر, على سبيل المثال؟ ثم, لماذا تدرّج النظامان البعثيّان في سوريا والعراق في الإبتعاد الأكيد عن عقيدة الحزب التي أصبحت مُحرجة لهم؟ ماذا حلّ بشعارات الوحدة والحريّة والإشتراكيّة؟ هل فقدت الحريّة جاذبيّة أم ان هناك طعما كريها للحزب ومناصريه عندما ينادون بالحريّة؟ وماذا كان زكي الأرسوزي أو ميشيل عفلق أو ياسين الحافظ سيقولون عن علي الديك أو محمّد حبش, مثلاً؟
ثم, لماذا تحوّل النظام البعثي في بلديْن إلى نموذج ناجح جداً للنظام التسلّطي؟ كيف نفسّر ذلك؟ هناك العديد من النظريّات, ولعلّ أكثرها سطحيّة هي نظريّة كنعان مكيّة في كتابه “جمهوريّة الخوف” عندما فطن إلى وجود جملة خطيرة وردت في كتاب لميشيل عفلق ونسب إليها كل الوحشيّة التي لحقت بالنظاميْن في سوريا والعراق. إنتقلت بنية الحزب السريّة التآمريّة إلى حكم الدولة ففصّلتها على مقاسها. والتناحر بين فرعيْ الحزب في البلديْن المتجاوريْن خلقا حالة مرضيّة من ال”بارانويا” المتطرّفة. مؤامرات تحت الطاولة وفوقها, وقبل الأكل وبعده. ردع التآمر—وبعضه حقيقي وبعضه مُختلق, وفقاً للظروف–شكّل هاجساً على كل ما عداه.
لن يُكتب الكثير عن هذا الحزب في المستقبل على الأرجح لأن الدراسات الأكاديميّة عن حزب البعث ستتحوّل—مثلها مثل الدراسات عن الأنظمة الشيوعيّة البائدة—إلى دراسات في الفكر والممارسة السياسيّة الإنقراضيّة. لكن يجب ان نفهم دور وطبيعة هذا الحزب وعقيدته التي طبعت مرحلة سياسيّة بحالها في الوطن العربي. كان المفكرون والصحافيّون من العالم العربي والعالم يتقاطرون إلى بيروت ليحظوا بجلسة واحدة مع الأستاذ في واحدة من مقاهي بيروت, أو لتفقّد مكاتب جريدة الحزب لتنسّم أخبار العالم العربي ومؤامراته المثيرة. ويُقال أن الجلسة مع عفلق كانت دوماً مخيّبة للآمال: مُؤسّس الحزب الذي شغل الناس بأخباره وأعماله كان مُقلاًّ في الحديث ويفتقر إلى الكاريزماتيّة ومُكثراً في الشكوى والتبرّم. لعل إتحاد عفلق بالحوراني كان إستعانة من الحالم بالكاريزما وبالشعبيّة والديناميكيّة. “الأستاذ”, كما كان يُعرف, لم يكن خطيباً مفوهاً وعانى لسنوات من ضربة عبد الناصر له دعائيّاً, عندما سرّب الأخير نصوص محادثات الوحدة (بعد إذاعتها) والتي صدمت الناس بضعف شخصيّة عفلق وتردّده أمام جمال عبد الناصر (راج بيع ذلك الكتاب الموجود على رف كل من إقتنى مكتبة بعد عام 1965.)
لكن من الخطأ التقليل من سطوة وقدرة هذا الحزب على الحياة بعد عقود من إصدارات المراثي عنه. هاكم (وهاكنّ) مُطاع الصفدي يكتب في عام 1964: “واليوم, ولم يبق من حزب البعث بعد أن سقطت سلطته الفكريّة وسلطته السياسيّة, إلا سلطته العسكريّة, أو بالأحرى إلا سلطة “الجمعيّة السريّة” من العسكريّين الطائفيّين وراء قلاعهم وحصونهم, فإنه ينتظر معركة تصفيته الماديّة الأخيرة مع الثورة الشعبيّة, التي سوف تندلع بين يوم وآخر. ومع ذلك, فإن البعث, الذي يطلق أنفاسه الأخيرة اليوم, يأبى ان يشيّع نفسه إلى لحده بسلام. فهو يحيط زواله بضجة مصطنعة جديدة” (مطاع الصفدي, حزب البعث: مأساة المولد, مأساة النهاية”, دار الآداب, 1964, ص. 425.) لكن الحزب إستمرّ وتحوّلت ضجّته المصطنعة إلى ضجة حقيقيّة: من حديد ونار بوجه الشعب الذي وعد بتحريره وتوحيده, فما كان منه إلا أن كبّله وشرذمه.
قد تكون معركة النظام السوري بوجه شعبه المعركة الأخيرة لحزب البعث. الحزب إنتهى في العراق بضربة أميركيّة, لكن من المشكوك فيه ان يؤدّي إندحار القوّات الأميركيّة منه إلى إنبعاث البعث هناك. ومن الملاحظ غياب إسم حزب البعث عن الخطاب السياسي للنظام في سوريا هذه الأيّام: وكأن النظام يريد من شعبه ان ينسى ان الحزب هو الحزب القائد (بالإضافة الى تلك الجبهة التي سخّرها خالد بكداش, مُؤلّف ومُلحِّن الماركسيّة الستالينيّة العربيّة, لخدمة النظام) مع ان الشعب يُطالب بتحرير الدولة من قيادة الحزب. ماذا تعني قيادة الحزب للدولة والمجتمع في سوريا؟ يقودهما نحو ماذا؟ وكيف تجلّت تلك القيادة على مرّ العقود؟ وما هي إنجازات الحزب نحو المجتمع, حتى لا نسأل عن إنجازاته نحو الدولة وقد عاد عليها بالنفع الوفير؟
لم يفشل حزب البعث كلّياً في سوريا. فبالإضافة إلى إجتراح وسائل تعذيب ناجحة وفعّالة عبر السنوات (في كل من سوريا والعراق مع الإعتراف بأن زنازين الأمير نايف هي أيضاً كانت ولا تزال فعّالة في إجتراح وسائل تعذيب على الاّ تتنافى مع شريعة الوهّابيّة السعوديّة) وتأثير بائد على شعارات المرحلة, فإنه تحوّل عنواناً لتسلّط منيع (إلى حين) في دولتيْن كانتا معروفتيْن بسرعة تغييرهما للأنظمة. الحزب لم يكن حزباً بالمعنى الجماهيري في سوريا: العنصر الجماهيري أتى به أكرم الحوراني وضخ فيه بعضاً من التقدميّة, قبل ان يحاول ياسين الحافظ ان يضخّ ماركسيّة معربّة في عقيدة الحزب. كيف حكم الحزب سوريا طيلة هذه السنوات والعقود ولم يكن عدد أعضاء الحزب يتعدّى ال400 في عام 1963 (وفق مقالة إيريك رولو عن البعث السوري في مقالة في “نيو لفت ريفيو” في عام 1967). البعث توصّل إلى قناعة—وهو الحزب النخبوي—إنه سيعجز عن الإستحواذ على تأييد الناس ديمقراطيّاً, فدرّب نفسه على العمل السرّي التآمري, وبرع فيه أيما براعة. هذه مزية هامّة للحزب: في فرعيْه. بزّ كل خصومه في المؤامرات السريّة وفي العمل الدؤوب لقطع الطريق على المنظمّات ذات الشعبيّة الأكثر. برع في إختراق المنظمة العسكريّة لعلمه بإستحالة نجاحه في الفوز الديمقراطي. هذا يفسّر ضبابيّة موقف الحزب (الخطابي) من الديمقراطيّة, وعدائه الفعلي لها. ما كان حزب البعث سيصل إلى السلطة عبر صندوق الإقتراع ولو عاش ميشيل عفلق لقرنيْن من الزمن.
تفرّق الحزب مبكّراً شيعا وفرقا وشللاً. وإذا كان لينين قد وصف واحدا من حزبيْن شيوعيّيْن في بلد واحد بأنه بالضرورة إنتهازي, فإن حروب البعث بين مللها ونحلها كانت أفظع من حروبها ضد الآخرين. أبلى فرعا حزب العبث في سوريا والعراق في الحرب بينهما أكثر من الحروب ضد إسرائيل. ولم تكن تجربة الحزب مع السلطة لصالح الحزب: حكمت السلطة على الحزب بالإعدام البطيء. الحزب الذي ترعرع في كنف المؤامرات السريّة واجه تجربة السلطة عبر الإستفادة من تجارب النظم القمعيّة في أوروبا الشرقيّة, وعقد إتفاقيّات معها. هناك من درج (في الكتابات السياسيّة الصهيونيّة مثل لوري ميلروي وغيرها من الذين جهدوا لتبعئة الرأي العام الغربي وراء غزو العراق) على تشبيه حزب البعث بالحزب النازي. المقارنة مع وجود قرائن عن تأثّر مبكّر لقادة في الحزب ببعض الكتابات النازيّة (مثل رواية عن إعجاب لعفلق في سن مبكّرة بكتاب لألفرد روزنبرغ) غير صالحة: حزب البعث كان حزباً سريّا ولم يصل يوماً إلى الجماهيريّة, على غرار الحزب الفاشي في إيطاليا أو الحزب النازي. لم يكن ما صُنّف ب “حزب الجماهير”. كما أن عقيدة الحزب وكتابات عفلق فيها أحلام قوميّة عامّة ولم تعدّ برناجماً واضحاً (مع ان عفلق عبّر في كتاباته عن فخر شوفيني بالعرق العربي حتى أصبح الإسلام نفسه إنتاجاَ عربيّاً خالصاً, وهو قرّع ماركس قائلاً: “الشيوعيّة هي وليدة الفكر الأوروبي والأوضاع الأوروبيّة الحديثة. ولئن كان ماركس قد نفخ فيها من روحه اليهوديّة الناقمة”, (ميشيل عفلق, “في سبيل البعث”, ص. 71)).
كانت حقبة الحزب في عهد صلاح جديد لا تقلّ قمعيّة, لكن الحزب آنذاك ضم عقائديّين نزيهين أخذوا الثورة على محمل الجدّ ورفعوا شعار حرب التحرير الشعبيّة وتبنّو علمانيّة صارمة لم تعرفها سوريا قبلهم أو بعدهم, مع أنهم قمعوا التنظيمات الثوريّة الفلسطينيّة وزجّوا بجورج حبش (وياسين الحافظ) في السجن وتحمّلوا مسؤوليّة هزيمة 1967 الشنيعة مع عبد الناصر والملك حسين ويمكن أن نضيف الشقيري الذي ساهمت خطبه في رص صفوف جنود العدوّ ورفع مستوى حماسهم القتالي). حملوا قضايا الطبقات الشعبيّة كما دلّل الرفيق عامر محسن في مقالة له قبل أكثر من أسبوع في “الأخبار”, لكن الإصلاح الزراعي لم يصب إلا جزءا من الأراضي (كما ان الإصلاح الزراعي بدأ في عصر الوحدة القصيرة مع مصر ولم يتذكّر حزب البعث الفلاحين إلا بعد إندماج أكرم الحوراني بالحزب). ويقول الباحث بول شو في دراسة نشرتها مجلّة “أراب ستديز كوارترلي” في عام 1984 أن إصلاحات البعث الإقتصاديّة لم تتوزّع بالتساوي على المناطق السوريّة (تحتاج الإحتجاجات في سوريا اليوم إلى دراسة من باب الإقتصاد السياسي لفهم نقمة الريف وتريّث المدينة): خفّضت حكومة البعث السوريّة نسبة الأميّة بين العمّال (الذكور) في محافظة دمشق إلى 14 % في عام 1975 بينما كانت النسبة 50% في محافظتيْ دير الزور والحسكة والرقعة. كما أن نطاق الإصلاح الزراعي في الجمهوريات العربيّة لم تكن جذريّة أبداً خلافاً للدعايّة الرجعيّة في الإعلام النفطي العربي: إذ ان دراسة “شو” أظهرت أن مجمل الأراضي المُوزّعة لم تتعدّ ال20% من مجمل الأراضي الزراعيّة في 5 من 8 من البلدان التي شملها البحث. وفي ظل الحركة التصحيحيّة, إبتعد الهم البعثي عن الطبقات الفقيرة خصوصاً عندما خاض بشّار الأسد معركة “الإصلاح” وهي لا تعني أكثر من محاربة الفقراء, وإن حظيت بدعم ومباركة من الدول الغربيّة.
عاش حزب البعث أكثر بكثير مما كان مقدّراً له. لكن الفضل لم يكن يوماً يعود لرسالته غير الخالدة أو لوحدة لم يحقّق منها إلا مزيد من التشرذم والفرقة. مرّ الحزب بتجارب مرّة وتحوّلت قيادة الحزب إلى فريق مُعاون للعائلة الحاكمة ولم يعد الجيل الجديد يعرف شيئاً عن ميشيل عفلق أو صلاح البيطار أو زكي الأرسوزي الذي عاش ناقماً على (ما اعتبره) سرقة عفلق والبيطار والتاريخ لإسهاماته المبكّرة في الفكر البعثي. طبعاً, إن فرعي الحزب لم يكترثا بتثقيف الأعضاء بالتراث العقائدي للحزب. تحوّلت العقيدة إلى خطب مطبوعة لقائد الدولة والمجتمع. الكراريس القديمة لا يُعاد طبعها خشية ان يجد فيها العضو الجديد ما لا يروق للحكم من إستفاضة أدبيّة لعفلق عن الحريّة (كان جوزيف إلياس على حق في كتابه عن “عفلق الأديب”: يجب على عفلق ان يُدرس كأديب, لا كمفكّر سياسي). كتاب نجاح العطّار عن حافظ الأسط (“حافظ الأسد: القائد الذي صنع التاريخ” يظهر على أوّل صفحة في موقع حزب البعث على الإنترنت.) لا تجد أثراً لعفلق أو البيطار أو الحوراني أو الأرسوزي. الأب والإبن, فقط.
مشاهد ما يجري في سوريا توحي بالفصل الأخير من حياة حزب البعث. لم يبق واحد من الزعماء التاريخيّين: مات معظمهم قتلاً وقلّة ماتت طبيعيّاً. لم يعد هناك من منظّرين للحزبّ: هؤلاء ماتوا (أو قتلوا) هم أيضاً. بقي المصفقّون والمدّاحون: هؤلاء الذين أعطوا أمثولة في الطاعة العمياء في مجلس الشعب السوري. من ينظر إلى هؤلاء بإعجاب, ومن يريد ان يقتفي آثارهم؟ البعث فُرض على الدولة والمجتمع وأصبح بطاقة دخول وترقية وإنتساب (ينسى البعض أن عدد أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي وصل إلى نحو 18 مليون عضو قبل أنهيار الشيوعيّة بسنوات قليلة, مثلما يفاخر أحد نوّاب الحكم في سوريا بأن عدد أعضاء حزب البعث في درعا بلغ نحو 200,000 عضو). كيف يتزاوج الحزب مع الديمقراطيّة وهو عالم بمآله؟ في لبنان, يدخل الحزب إلى الندوة النيابيّة بدفع من حركة أمل أو حزب الله أو الإثنيْن, وكفعل جميل نحو النظام السوري. وعندما كان الحزب حزبان في لبنان, إنشغل الفرعان بحرب شعواء. عندما تدخّل الجيش السوري في لبنان في عام 1976 لإجهاض محاولة ثوريّة, إنشغل حزب البعث السوري بتصفية الفرع العراقي (هكذا سقط الشاعر موسى شعيب, صاحب قصيدة “هيفاء تنتظر الباص على مفرق تل الزعتر”).
كيف يمضي بشّار الأسد في إصلاحات ضروريّة وحيويّة وهو يعلم إنها تؤدّي بالنظام والحزب إلى الهاوية؟ كيف يُطالب حزب البعث بقيادة الدولة والمجتمع نحو الديمقراطيّة؟ من يشك في نتائج إنتخابات حرّة يتواجه فيها الحزب مع الإخوان المسلمين أو حتى مع من تبقّى من الناصريّين في الشام؟ ومن يعتقد ان حزب البعث سينهض من السرير لو لم تلتزم الدولة رسميّاً ودستوريّاً بقيادته للدولة والمجتمع على حدّ سواء؟ يكاد الجيل العربي الجديد ينسى تاريخ هذا الحزب: كيف جذب إليه ذات يوم نخبة من مثقفي العالم العربي, من المغرب والمشرق. كان الجميل العربي المتعلّم ينجذب نحو هذا الحزب التي كانت وعوده بحجم أحلام جيل عربي بحاله. بعض الأحلام تبخّرت امام تراكم من الهزائم والخيبات والإستسلامات الرسميّة والشعبيّة, ووعود الحزب تحجّمت بفعل تدمير النظام للحزب (أو بفعل تذويب الحزب في الدولة, أو تذويب الدولة والحزب في شخص الزعيم, كما يذوب المؤمن في الذات الإلهيّة عند الصوفيّين). لم يكن سقوط الحزب عفويّاً في كل من سوريا والعراق: بل أن معرفة النظاميْن بشأن التنظيم الحزبي وبراعته التآمريّة جعل من الحزب مصدر خطر للنظام. وليس من الصدفة ان أشرس حملات الإعتقالات والقمع والإعدامات في سوريا والعراق طالت قياديّين في بنية الحزبيْن. هؤلاء كانوا على معرفة بوسائل الحزب للوصول إلى السلطة من خلال المؤسّسة العسكريّة أو الإستخباراتيّة.
لن يُخرج الحزب النظام من أزمته, كما أن النظام يحتاج للقضاء على الحزب من أجل البقاء في السلطة. أو أن النظام يحتاج إلى مزيد من القضاء على الحزب حفاظا على النظام. لكن في ذلك خطورة للنظام (إن في سوريا أو في العراق أثناء حكم صدّام). يصبح النظام من دون الحزب عارياً: حكم العائلة من دون تجميل أو من دون شعارات واقية. والثقافة السياسيّة السائدة في نظم البعث تخشى من أخذ شعارات البعث نفسها على محمل الجدّ: التمجيد يجب ان يصبّ بإتجاه القائد الزعيم (القومي والقطري على حدّ سواء) وليس للأمة. تخضع الأمة للزعيم وتتحوّل إلى أداة للتطويع. الخيار هو في تغيير عقيدة الحزب وتغيير إسمه: تصبح الضبابيّة القوميّة ضبابيّة إصلاحيّة. ووحدة العالم العربي تُستبدل بوحدة الشام فقط.
لكن من الصعوبة أن تتوافق الإصلاحات, أو ما يُتوافق على تسميته ب”الإصلاحات” في سوريا, مع حزب البعث وقيادته. مقرّات حزب البعث في سوريا أصبحت هدفا للمتظاهرين في بعض الأماكن, مثله مثل الحزب الحاكم في مصر واليمن وتونس (وليس في ليبيا, لأن الجماهير تحكم هناك, فيما تراقب عائلة القذّافي الوضع من بعيد). أين تصب جام غضبك إذا ثرت في الجمهوريّات العربيّة؟ كما ان للحزب أسلوبا في الخطاب والخطابة السياسيّة كفيل بإستفزاز الناس والجماهير. يخوض العضو البعثي غمار سنوات من التدريب على المزايدة وعلى الصياح القومي, لكن البعث تحوّل إلى حزب شديد القطريّة في كل من سوريا والعراق (أثناء عهد صدّام). والذي يحاول تنسّم الأخبار في الأيّام الماضية من خلال الإعلام الرسمي السوري (طلباً لنوع من رأي آخر هجرته محطة “الجزيرة”) يجد ان الخطاب السوري الرسمي خطاب قطري شوفيني يكاد ان يقلّد المناحي نفسها للشوفينيّة اللبنانيّة (التي كرّست كراهية للعنصر السوري والفلسطيني, والعربي بصورة عامّة). الأغاني والمشاهد وعلي الديك تهدف إلى تمجيد أمة سوريّة, كما عمل صدّام حسين على تمجيد الأمة العراقيّة. ولم يعد حزب البعث يعد بالحريّة, وإن أكثر الحديث عن الممانعة (وهي ليست أكثر من نسق معدّل للهرع العربي الرسمي للتوصّل إلى سلام مع إسرائيل, لكن بشروط أفضل قليلاً.) جريدة “تشرين” توازي بين الحريّة وبين أمن الوطن, كما يعاقب القانون البعثي الرسمي على أي إضعاف “لروح الأمة”. لكن, من يعاقب حزب البعث على إضعافه الشديد ل”روح الأمة”؟ أم هو خارج المحاسبة كونه قائداً رسميّاً للدولة والمجتمع؟ ومن يحاسب علي الديك على صياحه؟ ألم يضعف “روح الأمة” التي تغنت بها رسالة الحزب التاريخيّة؟
عجّل مطاع الصفدي في إعلان وفاة حزب البعث في عام 1964. أمتدّ العمر بالحزب لنحو خمسين عاماً بعد رثاء الصفدي. قد تتأخّر عمليّة الإحتضار الأكيدة أو تطول, بناء على تطوّرات داخليّة أو خارجيّة (أو موضوعيّة أو ذاتيّة) لكن المسألة بالشهور او السنوات المعدودة. قد تُكتب شاهدة قبر حزب البعث في مدينة درعا. سيُسَجّل أن الكتابة تخضّبت بالدمّ (ومن دون قانون الطوارئ).