كائنةً ما كانت تسمية الحدث السوري الكبير، «انتفاضة» أم «ثورة» أم «حرباً أهلية» أم «أزمة»، وهو خليط من هذا كله، فإن ما يميزه عن أقرانه درجةُ العدوان الذي يُمارَس على المجتمع، ومن ثم مدى الشجاعة التي يُحمل المجتمع على إبدائها رداً على العدوان ذاك. فالتريمسه ليست سوى عنوان دموي ووحشي آخر يهب في مواجهة دعاة التسويات الملفقة. هي تسويات ملفقة لأن من يُنزل هذا العدوان بشعبه المفترض يكون يعلن أنه ليس من هذا الشعب، وأن هذا الشعب ليس منه. ذاك أن العنف الذي تُطلقه السلطة السورية لا يمارسه إلا غرباء غير معنيين بتاتاً بأحوال «ناسهم» و «أهلهم»، لا يعيشون بينهم إلا بشرط أن يعيشوا فوقهم. وهذا، ربما باستثناء سلطتي معمر القذافي وصدام حسين، يجعل السلطة السورية في غاية التميز، الذي يضارع سلطات النقاء الدموي والسلالي. ولا شك في أن أسباباً كثيرة تفسر هذا السلوك، في عدادها حس أقلوي مدفوع إلى سوية الهستيريا التي يدرك أصحابها أن القوة العارية وحدها هي ما يُبقيهم حيث هم. فإذا حُسبت الأمور حسبة علمانية، سقطت المسوِّغات التي تجيز بقاء الحكم في يد أفراد من جماعة بعينها. أما إذا حُسبت طائفياً، كان «المنطقي» انتقال الحكم إلى يد الأكثرية الطائفية. وليس من الصدفة، في هذا المعنى، أن جميع المحطات التي يمكن اعتبارها أصولاً لهذه الجماعة الحاكمة كانت انقلابات ومؤامرات عسكرية تتم في العتم: من 8 آذار (مارس) 1963 إلى 23 شباط (فبراير) 1966 إلى «الحركة التصحيحية» في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، تتويجاً بالتوريث في 2000، حين نجح تراكم التآمر والعتم في تلخيص المجتمع بغرفة قيادته. وليس من الصدفة كذلك، سَوْسُ السوريين بالحكم العسكري الجلف عقداً بعد عقد، وانتهاء «المنشقين» عنه ما بين «منتحرين» ولاجئين إلى الخارج. وربما كانت العلاقة بالجيش من أكثر ما يدل إلى خارجية هذا النظام: فليس سراً أن المؤسسة العسكرية، وهي افتراضاً مؤسسة النظام الأولى، مسكونة بالخوف من انتقام أصحاب الأيدي الطولى في النظام وارتداد هذا الانتقام على الأقارب. وهذه العلاقة بالجيش (وبسائر المؤسسات «الرسمية» بما فيها السلك الديبلوماسي) تشبه علاقة القبيلة المتمكنة وذات الشوكة بالقبائل المهيضة الجناح التي يكون عملها المكروه، والمُذل، شرطاً للبقاء على قيد الحياة. إنها، تعريفاً، العبودية الحديثة كما أنتجتها أنظمة الاستبداد التوتاليتاري والحزبي، لكن الهستيري حين يكون صاحب امتيازات مسمنة لا يكون هستيرياً تماماً. فهنا ينعقد المرض على إدراك حاد للمصالح المباشرة، فضلاً عن قدرة المريض على إجراء الحسابات «الواقعية» و «المدروسة» لتوازنات القوى ولمواقف إقليمية ودولية تمتد من تقدير الموقفين الروسي والإيراني إلى الارتياح الناجم عن ضعف المواقف الغربية. هذه العلاقة الخارجية بالمجتمع تجعل الشجاعة الأسطورية للسوريين أمراً محتماً لا مهرب منه، لأنها تخيرهم بين الموت مرة وهم يدافعون عن أنفسهم، والموت مراراً وهم يتحملون طردهم من بلدهم من غير أن يدافعوا. في هذه المعاني كلها يتجاوز الصراع في سورية ما هو سياسي إلى ما هو أساسي وأصلي في علاقة البشر بعضهم ببعض. وهنا ترتسم عناصر ملحمة من عيار توراتي، ملحمةٍ يبدو حيالها سخيفاً وتافهاً ذاك «التسييس» الذي يجمل النظام، لأنه «ممانع» أو لأي سبب كان.