مسيرة الاستبداد الاسدي خلال الاربعين سنة الماضية تملأ مجلدات بما يشير الى ان ذلك الاستبداد قام وانتج ثقافة, وان المرويات التي لا تنتهي عن حوادث الاجرام وسفك الدماء حتى في سنوات ما قبل الثورة ليست مجرد “سلوكيات فردية” خارجة واستثنائية ولا يمكن الحكم من خلالها على النظام. ان المدافعين عن النظام يحتاجون الى قدرة خارقة كي يبرروا ديمومة ذات الثقافة الانتقامية والاستبدادية والفرائسية التي تحتقر الشعب والافراد والناس ولا تنظر لهم إلا كأعداء لا يستحقون الا الازدراء والاحتقار او الموت ان عارضوا النظام. ومسيرة الاستبداد الطويلة تلك, وكما كانت مسيرة الاستبداد الصدامي النظيرة, تشتغل على تخريب ثقافة الناس ايضا ونظرتهم الى ذاتهم, وتسعر اسوأ من فيهم من ولاءات وطائفيات, وتوترات, وتراكم في دواخلهم نزعات الثأر والرغبة الجارفة بالانتقام والرد على كل ما قد تعرضوا له خلال مراحل طويلة. لهذا فإن من نراه من سيادة للتطرف والاقصاء والحقد بين الاطراف التي ترث النظام المتداعي يكون في العادة مدهشا, ومريرا, ومخيبا للآمال في ذات الوقت. لكن جذور ذلك كله تعود الى المناخ المسموم الذي يبثه وينشره النظام الاستبدادي ويرعاه. وهو مناخ لا يمكن الا ان ينتج جيوبا وافرادا هنا وهناك تنهل من نفس الغريزة الانتقامية والثأرية وإن كانت تأتي من الطرف المقابل. من هنا فإن التحدي الاكبر والاخطر الذي يواجه الثورة السورية, وكما واجه الثورة الليبية, وكما لا زال يواجه عراق ما بعد صدام حسين, يتمثل في كيفية محاصرة ثقافة الدم, وغرائز الانتقام, والنظر الى المنافس السياسي بكونه فريسة مُستباح دمها. ستحتاج سوريا الى فترة نقاهة طويلة كي تتطهر من الحقبة الاسدية وامراضها وما الحقته بارضها وشعبها وثقافتها وتستوي على قدميها وتسير للامام.
انظمة الدم تنتج ثقافة الدم, “الأسدية ” نموزجا
علاّمة حلب ومثقفها النهضوي البارز عبد الرحمن الكواكبي صاغ قبل اكثر من قرن مقولة تُسطر بماء الذهب: الاستبداد اصل كل فساد. في العقود والقرن الضائع الطويل الذي جاء بعد تلك المقولة, وفي ما عدا سنوات سريعة وجيزة لانظمة ديموقراطية برلمانية بعيد الاستقلالات, اعرض العرب عن الاستماع لنصيحة الكواكبي وتبنوا عكسها تماما: احتضنوا الاستبداد عماداً للانظمة السياسية التي سادت. اخذت الانظمة العربية اشكالا وتنويعات مختلفة على مقياس الاستبداد فمنها من وصل الى اقصى درجاته ومنها من بقي استبداده في درجات ادنى. الاستبداد بكل تنويعاته مدمر ومنتج للفساد لكن ابشعه ذلك الذي يصل الى درجة الولوغ والسباحة في دم الناس والشعب والابرياء. هذا النوع من الاستبداد لا ينتج كل انواع الفساد وحسب, لكن والاخطر من ذلك كله ينتج ايضا ثقافة الدم ويؤصلها ويجذرها في المجتمع. يحدث ذلك عبر تنمية غرائز الثأر والانتقام ومراكمة الحقد والكراهية. تصبح الكراهيات بين شرائح الشعب والنظام هي اوسمة شرف داخل كل دائرة معادية للاخرى, وتصبح “الكراهية مديحا”, بإستعارة عنوان الرواية المبدعة للصديق خالد خليفة والتي صورت الواقع السوري الاسدي ومنتجاته ببراعة. من هذا المنظور يمكن اليوم قراءة ما يقوم به النظام السوري من اجرام مدهش, وقراءة ممارسة بعض مجموعات المعارضة الانتقامية والدموية ايضا. ودفعا لأي سوء فهم ليس المقصود هنا تسطير مساواة “موضوعية سمجة” بين المجرم والضحية, فالنظام الاسدي هو المجرم والشعب السوري بناسه ومعارضته ومقاومته المسلحة (رغم ما فيها من شوائب) هو الضحية. النظام الاسدي يحتل اليوم اقصى نقطة دموية في مقياس الاستبداد ويقدم المثال الاكثر بشاعة في المنطقة العربية للاستبداد المنتج لكل انواع الامراض الجماعية, وخاصة ثقافة الدم والثأر والانتقام.بدايات شرارة الثورة السورية انطلقت في مدينة درعا كما هو معروف في شهر آذار 2011, عقب التعذيب والاهانات التي قام بها محافظ المدينة بحق اطفال دون السن القانونية كتبوا شعارات ضد النظام, مندفعين بروح الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا ومتأثرين بها. آنذاك اوقع المحافظ الهمام تعذيبا دمويا بحق الاطفال ادمى قلوب ذويهم, ولما جاؤوه على رؤوس قبائلهم للمطالبة بإلافراج عن الاطفال شتمهم وشتم اولادهم “عديمي التربية” وطالب منهم نسيان اولادهم وانجاب غيرهم, وان لم يستطيعوا انجاب غيرهم فيمكنهم جلب نسائهم للمحافظ ورجاله كي يقوموا بتلك المهمة! ما الذي اوصل المحافظ العتيد الى تلك الدرجة من الانحطاط القيمي والاخلاقي والدموي, ولماذا تحول الى ذئب يجلس على كرسي لا يرى في بقية الشعب سوى فرائس يمكنه فعل ما يشاء بها؟ لم يكن ثمة ثورة ولا خطر على النظام ولا مظاهرات عارمة تجوب شوارع درعا آنذاك, فلماذا هذه القسوة البالغة في المعاملة والذهاب الى الحد الاقصى؟ ليس هناك جواب شاف على هذا السؤال الا بالعودة الى المنابع الاستبدادية للنظام وكيف تفاقم الطغيان والجبروت والاقصائية والتضخم في الذات السلطوية التي صارت تنظر للبلد والشعب بكونها اقطاعية ومزرعة لا غير.قسوة محافظ درعا ودمويته اثبتت انها كانت “اقل” بشاعة مما اعتقده الناس يوم قام بما قام به, بل كانت نسخة محسنة و”لينة” من الدموية التي اطلق حممها النظام ضد الشعب السوري خلال الشهور التي تلت. تكشفت للناس درجات مذهلة من القدرة على سفك الدماء, والذبح, والتمثيل, وقتل الاطفال, وإزالة الحناجر. قدم النظام الوجه الحقيقي له: الشبيحة, وهم حماته والمدافعين عنه, والمستعدين لإبادة كل الشعب لو تمكنوا وذلك في سبيل بقاء الاسد وبطانته في الحكم. اطلق الشبيحة كل ما تراكم خلال العقود الماضية من إرث الدم وثقافة القتل والاستباحة, واذهلوا حتى انفسهم بسبب درجات الدموية التي قدموها للناس والمذابح التي اطلقوها ضد ابرياء القرى والمزارع. ثم جاء انفلات الهوس الجنسي ليستغل الفوضى ويترك لمكبوتات سابقة هي خليط معقد لسيكولوجيا فرويدية مريضة ترعرعت في احضان النظام لا ترى الشعب الى فرائس سائبة برسم الافتراس … والاغتصاب الذي توفرت ظروفه الموضوعية.