الانشقاق، وبغض النظر عن شخوصه خلفياته، وأسبابه، وموجباته ومن يقف خلفه ويموله ويحمله، هو، في المحصلة والمقام الأول، إحدى وسائل الضغط والقوة الناعمة التي يعول عليها في عملية “إسقاط” النظام السوري الجارية منذ ستى عشر شهراً، حتى اليوم، وقد تم التعاطي مع انشقاقات حدثت، مؤخراً، في سوريا، بطريقة جد تهويلية فضائحية من عيار أم جلاجل و”ألواه ألواه”، و”عراضات” باب الحارة، والخبطات الصحفية المدوية، وكأن القوم قد حظوا بصيد ثمين، وأتوا بفتح مبين، وتم إيلاؤها الكثير من الاهتمام وتسليط الأضواء كي توحي بأن النظام يترنح وهو آيل للسقوط، لدرجة أن فابيوس، في مؤتمر أصدقاء سوريا(1) بشـّر، وهلل، بإفلاس مضحك، وسابقة خارجة عن كل الأعراف الدبلوماسية، بهروب ضابط سوري دون جوان مهمـّش لولا موقع والده، وطبيعة الوضع في سوريا، لما حلم بأن يكون أكثر من محرر لشؤون الجميلات في صحيفة تختص بفضائح النساء وليس مؤهلاً بحال لدور القائد العسكري وهو يظهر كفتى عابث ولاه بذاك السيجار الفاخر المدحوش في فمه، فيما اعتبر البيت الأبيض، أن انشقاق أحد السفراء بداية النهاية للنظام السوري، ولا ندري كيفية الربط بين هذا وذاك، وهذا أمر مبالغ فيه، وغير حقيقي ومناف للحقيقة والواقع، فمن يعرف تركيبة وطبيعة النظام السوري، سيخرج بخلاصات مغايرة لهذا الواقع التهويلي.
وبداية، وقبل الخوض في بنية الانشقاقات التي اعتبرها البعض نوعية وقاصمة للنظام، يمكن القول إن المقدمات الخاطئة تقود إلى نتائج فاجعة وخاطئة. فآلية تصنيع المسؤول في سوريا، وهاجس البقاء يسيطر على الجميع، تدرك وتضع في حسبانها مقدماً أموراً من هذا القبيل، ولذا تجعل من وجود أي مسؤول وعدمه، ومهما علا شأنه، سيان في نفس الوقت. ومن هنا لا بد من التعريج على الآلية التي يتم بها اختيار الأشخاص للمناصب العامة في سوريا، والتي تقوم، عادة، على التعيين المباشر الذي تأتي الموهبة، والإنجاز، والكفاءة، والإبداع، والسمعة الشخصية والكاريزما، التي تحدثنا عنها سابقاً، في معظم الأحيان، في مؤخرة عوامل الانتقاء للمنصب العام لا بل، ونحن نتكلم عن تجربة وواقع وتاريخ أصبح عرفاً وتقليداً في وجدان الناس، إن الاستعداد للفساد والإفساد والمناقب التي لا تسر والتواضع العام والمحدودية واللا كاريزما يقدم على سواه. وطبيعة الأشخاص المرشحين للمناصب العامة تكون عادة من أولئك الذين لا يهشـّون ولا ينشـّون ولا يتمتعون بأية قدرة على المبادرة والإبداع، وشرط ألا يمتلكوا أية شعبية، وألا يتمتعوا بحب الناس على الإطلاق لا بل يفضل من يكونون مكروهين، ولدهم سمات تنفيرية بشكل عام. وقد قال لي ذات يوم، وبهذا الصدد، أكاديمي سوري مرموق جداً، ووجه سوري معروف كثيراً، أنه طـُلب ذات يوم، من إحدى الجهات، تقييمُ لفلان من الناس قجاء التقييم على النحو التالي: ” رجل تافه ولكن يمكن الاستفادة منه”، وفعلاً، كما قال لي الصديق المرموق، تبوأ الرجل منصب وزير لاحقاً.
ولذا يكون وجود وبقاء الشخص المعني منوط بسلبياته وعوامل ضعفه، وسلبياته وبالمآخذ عليه هذه أكثر من إيجابياته وعوامل قوته، ولذا حين يرحل، يرحل غير مندوب، وغير مأسوف عليه. ولو دققنا بكفاءات ومواهب وإنجازات الكثير من المسؤولين السوريين لخرجنا بنتائج مخيبة للآمال للجميع. فالعلاقات الشخصية، والقرابة، والمحسوبية، والشللية، والصداقة، والمنفعة، والتنفيع، والوجاهة، والمحاباة، والقرب والقدرة على التقرب من أهل النظام، والمحاصصات بشتى أنواعها، تتقدم على ما عداها من عوامل، في تبوء منصب ما، ومن هنا لا يكون، عادة، للشخصية المنتقاة للموقع العام أية شعبية، أو تأثير يذكر لا على المنصب ولا على الناس، وترى معظم المناصب “مبهبطة” على الكثيرين، وكثيراً ما يتساءل السوريون البسطاء، كيف وصل هذا إلى هناك، وياتي الجواب بالغموض وزمّ الشفايف والاستغراب التام. ولا تدري لماذا هذا المسؤول هناك سوى أنه يستمد شرعيته من تلكم الاعتبارات وليس من اعتبارات المهنية، والمناقبية الشخصية، والكفاءة والشعبية وخدمة الصالح العام، والأمثلة الراهنة والسابقة أكثر من أن تعد وتحصى، لا بل ما إن يستشعر بوجود أية شعبية، أو نجاح لمسؤول في عمله، حتى يتم إيجاد “تصريفة” له وعزله على الفور، وحجبه. وكان نجاح البعض وشعبيتهم وحب الناس لهم عامل شؤم ونحس وغضب عليهم في الكثير من الأحيان، فغير مسموح أن يكون هناك شعبية وكاريزما لأحد. ومن هنا تدرك السر-اللغز في بقاء مسؤول فاشل غير مؤثر وغير مبدع وعاجز تماماً، عشرات السنين في منصبه دون أن يقوم بأي إنجاز ما، فهذا، على ما يبدو، هو المطلوب منه بالتمام. وهنا يحضرنا المثال التاريخي المزمن، وهو “الرفيق” عبد الله الأحمر، الذي يشغل منصباً قيادياً تاريخياً، فيما يسمى بحزب البعث، من دون أن يعرف أي مواطن في سوريا، ماذا يعمل هذا الشخص بالضبط، وما هي وظيفته، أو يـُعرف أي إنجاز له، أو ما الذي حققه لسوريا وللسوريين عبر حوالي خمسة عقود عجاف من وجوده في الواجهة الحزبية والسياسية والقيادية في سوريا. (ماذا لو انشق عبد الله الأحمر اليوم؟).
وتعريجاً، أيضاً، بالأمس صدرت سلسلة مراسيم بـ”تعيين” مجموعة ممن يطلق عليهم اسم المحافظين الـMayors في سوريا، وتم توزيعهم على مختلف المحافظات السورية، وهو المنصب والمسؤولية الأهم في الدول الديمقراطية لجهة الخدمات والمسؤوليات المنوطة بالمحافظ في تلك الدول والتي تجعل منه الحالكم الفعلي للمحافظة أو المدينة، غير أنه في سوريا، ومن الواقع والتجارب، لا يغدو على كونه منصب شكلي وواجهة فخرية وجاهية لا تهش ولا تنش ولا تقدم أي إنجاز يشعر به المواطن. فقد أصبح منصب المحافظ منصباً وجاهياً، لا أحد يعلم بالضبط ما الذي يفعله وما الذي يقدمه للمحافظة خلال فترة وجوده، وما هي مهامه الفعلية وأنجازاته، ويكاد يكون مركزاً محض نفعي، يعهد للمقربين والمحظيين ومن يراد تكريمه ممن انتهت خدماتهم أو تقاعدوا وكبروا في السن وكي لا يشعروا، ويا حرام، بالوحدة والفراغ فيتسلون بهموم، ويتلاعبون بآلام وآمال الناس. ولو سألت مواطناً عادياً عمن هو المحافظ في مدينته فقد لا يعرف، وبكل بساطة، وبالكاد يتذكر اسمه الكريم. وشخصياً، ورغم انخراطي في الشأن العام، فلا أعرف، وبكل صدق، ولا يهمني، مثلاً، من هو اسم محافظ اللاذقية السابق، واللاحق، وهي مدينتي، وبكل بساطة، لأني لم أستشعر وجود المحافظ على الأرض، ولم أر أي إنجاز له، ولا للمحافظين السابقين، سوى في زيادة الخراب، والفساد وزيادة وتعميم رقعة الخلل والمخالفات والالتفاف على القانون والهبوط المتتالي أكثر وأكثر نحو قيعان الفقر والبؤس والشقاء. وقد قيـّض الله لي، أن أعاصر، وفقط بحكم التقدم في السن، مجموعة من المحافظين في اللاذقية، كان نواف الفارس(2) أحدهم، فلم نكن نسمع سوى عن قصص فسادهم وإفسادهم وزيادة الفقر والبؤس والمخالفات والانهيار العام، والأنكى من ذلك أن يتم نقل هذا المحافظ وذاك لمحافظة أخرى كي يكمل مهمته المقدسة في الخراب والتخريب والفساد والإفساد ومراكمة الثروات. فالمنصب فخري وجاهي بالدرجة الأولى ولا قيمة له على الصعيد الوطني والعام لأن آلية الاختيار، كما قلنا، لا تتم بناء على كفاءة الشخص ونجاحه في الخدمة العامة بمقدار ما هو منصب سياسي وجاهي فخري يتم منحه لهذا وذاك. ولو تفحصنا أسماء المحافظين الجدد مؤخراُ فهم من الصنف المغمور وغير المعروف بالمطلق، وبالكاد تستطيع أن تتعرف على اسم شخص، منهم، ولا تعرف من أين أتوا به، وما هي نجاحاته على صعيد الخدمة العامة والوطنية، ولماذا نطـّ إلى هذا المنصب، وما هي إمكانياته وتاريخه الحقيقي، وماذا يمكن أن يقدم للسوري الفقير والعادي، وهل لديه برنامج معلن، وهدف معلن أم يعمل على قاعدة “عليهم يا عرب”، المعروفة، ولماذا اختير دون غيره لشغل هذا المنصب العام، ومن رشحه، ….إلخ من الأسئلة التي تجعل من الموضوع والخوض فيه أرقاً ومبعث نكد حقيقياً بكل الأبعاد؟ وكذا الأمر بالنسبة لأي منصب آخر، وزير، سفير، مدير عام…إلخ.
فطبيعة النظام المغلقة، ومركزة القرار، التي شلـّت الحياة العامة في سوريا وأوقفت التنمية وأهدرت الطاقات وهجـّرت الكفاءات، (هناك مثلاً مئات الألوف من القضايا والملفات والتظلمات والمطالب المحقة للمواطنين لا يجرؤ أحد على البت فيها أو الاقتراب منها ومحاولة التفكير بحلها خوفاً من أن يكون للموضوع بعد سياسي أو أمني)، وهذا الوضع يجعل من أي فرد آخر مجرد رقم صغير وصفر على الشمال لا قيمة له ولا يملك أية قدرة على الأثر والتأثير والمبادرة طالما أن لا قرار ولا شعبية له، ولا يستمد شرعيته من الأرض، ولا من اقتراع، أو انتخاب أو إبداع وإنجاز، بقدر ما يستمد شرعيته وبقاءه من الجهة التي أوصلته لذاك المقام. ولذلك ترى أي عزل، وبالتالي، انشقاق، (رغم أنه قد يكون محض تعبير سياسي وقراءة صائبة أو خاطئة في سياق وظرف جيوسياسي ما كما اليوم) أي فرد في هكذا أنظمة يتم بمنتهى السهولة والإنسيابية، ولا يحدث ذاك الضجيج والدوي المؤثر والإشكال المأمول حين يتم عزل فلان وتنحيته التي تتم، وكما يقول المثل، كسحب الشعر من العجينة. وقد حدث في ماضي النظام القريب، والبعيد نسيبياً، عمليات تنحية وعزل لشخصيات كان يعتقد بأنها مؤبدة وفاعلة ومركزية، وقوية (على دوبا، علي حيدر، غازي كنعان، عبد الحليم خدام، الشهابي، رؤساء وزارة سابقون)، حدثت بكل سهولة ويسر ودون أن يتسبب عدم وجودها وإخراجها المدوي أحياناً بأي قدر من عدم الاستقرار أو الاضطراب. وكان، أحياناً، التاريخ الأسود العفن الفاسد للشخص المعزول أو المنشق، عامل تهدئة وارتياح شعبي أكثر مما يحدثه من اضطراب، فسيرته الوظيفية السوداء لا تشفع له على الإطلاق. وهذا ما حدث مع النائب السابق لرئيس الجمهورية عبد الحليم خدام، الذي كان أكبر انشقاق يحدث في تاريخ النظام، حيث كان خدام عصب النظام ومحركه لـ35 عاماً، وقال حينها بالحرف: “أنه هو من صنع النظام، وهو يعرف كيف سيفككه قبل انتهاء صلاحية جواز سفره”، ولكن كل توقعاته خابت وذهبت أدراج الرياح، وبدا كمن “خرج من الدنيا يد من وراء ويد من قدام كما يقال”. انشقاق عبد الحليم خدام، الذي حدث في آخر يوم من العام 2005، ولا ننسى أن سوريا كانت في وضع إقليمي ودولي، أضعف بكثير من الآن، مر مرور الكرام، واستمر النظام وكأن شيئاً لم يحدث، وفي وقت لم تكن فيه الأمور على هذه الدرجة من الحدية، والاستقطابية الإقليمية والدولية التي لا تسمح، البتة، وعلى ما يبدو، باللعب بالتوازنات القائمة.
وهكذا، سيمر انشقاق الفارس، وطلاس، وغيرهم، مرور الكرام، ولن يحدث الأثر المطلوب والمأمول والمعول عليه، كما لا يبدو أن أي انشقاق مستقبلي قد يحمل أي خطر جدي على بقاء النظام إلا في تزامنه مع الحالات التالية، مجتمعة:
1- انشقاقات في المناصب العليا متزامنة مع وجود قاعدة شعبية سلمية (حصراً) معارضة عريضة، أي تجمعات مليونية تغلق الساحات ولا تتزحزح منها، وتشل الحياة في البلد.
2- انشقاق فرق وقطعات عسكرية بكامل عتادها وانضمامها إلى المعارضة، وتفكك، وضعف الجيش والأجهزة الأمنية التي ما زالت، كما يبدو، بأنها تعمل بكامل طاقتها ولياقتها.
3-وجود نية دولية جادة للتدخل العسكري، كما حدث في ليبيا، تستطيع أن تغير في التوازن العسكري القائم لصالح النظام، ويبدو هذا الأمر-التدخل- شبه مستحيل، ومستبعد أيضاً، ولا يأتي على مجرد التطرق إليه غلاة الناتو، وجنرالاته، لإدراكهم التام بطبيعة الواقع اللوجستي، والميداني، وتوازن القوى الدولية، وتحالفات سوريا الإقليمية والدولية، ما يجعل أية حماقة من هذا النوع، انتحاراً عسكرياً وسياسياً، وبشرياً للجهة التي تفكر بالإقدام عليه.
4-وجود قاعدة أو جسم أو هيئة معارضة قوية تقوم مقام النظام، وتكون بديلاُ عنه، وتشكل خطراً جدياً وحقيقياً عليه، فما حدث في مؤتمر القاهرة، الأخير، أحبط كثيرين، وأهمهم، طراً، الداعمون والراعون للمعارضة الاستانبولية، والخليجية، الأطلسية.
احتلت أسماء مستهـْلـَكة، وشخصيات ثقيلة وفجة ومكروهة، وعائلات بعينها حياة السوريين ومكثت فوق رقابهم دون أن تتزحزح لعقودطويلة منذ انقلاب البعث، ولعل أسماء من مثل مناف طلاس، ونواف الفارس، وغيرهم من رموز “النضال الثوري” اليوم، خير دليل على ذلك. إذ يبدو أن أقدار السوريين المشؤومة هي أن يقضوا أعمارهم وبقية حياتهم بأسماء تطغى على وجودهم وتحتل ذواكرهم ولن يقدروا على التخلص والتحرر منها لا هي إن بقيت داخل النظام، ولا حتى إن خرجت منه بطريقة ما، وحتى بعد أن يعزلوا، ويفارقوا الحياة، أو يقرروا الخروج من حياة اسوريين لسبب ما، وتبدو مصرة على التنغيص عليهم وتكدير حياتهم من داخل النظام ومن زواريب الثورات. أية أقدار قاسية ومشؤومة شوهاء؟
(1)- لا ينقص أصدقاء سوريا سوى “إسرائيل” حتى تكسب الهيئة مصداقيتها، ويكتمل النقل بالزعرور، كما يقال.
(2)- لم ألأحظ، لا أنا ولا غيري أية مواهب وكفاءات استثنائية للسفير المنشق نواف الفارس، وقام هذا الرجل بما يمكن أن نطلق عليه، بالسياحة الوظيفية، والتنقل والنطوطة من منصب رفيع إلى آخر، ولم يترك منصباً مرموقاً في النظام يعتب عليه، فمحافظ ثم محافظ ثم محافظ، حتى ظننا أنه سيرثه، ورئيس فرع قمع سياسي، وأمين فرع بعثي، ومن ثم سفير، فماذا تبقى غير المناصب الأولى التي يبدو أن “عينه”، التي لم تشبع من منصب، ومن مال، عليها.