مهما كلف االثمن !

تلك الشابة، مراسلة قناة «الدنيا» شبه الرسمية السورية، عادلت قسوتها المشهد الموضوعي الرهيب للجثث المتكدسة في جامع مدينة داريا التي تتمدد عند سفح قاسيون، ولا تبعد عن العاصمة أكثر من سبعة كيلومترات. كانت الشابة تتقافز بكل رشاقة وتماسك بين الجثث والأشلاء. بعض الأجساد ما زال ساخناً أو نابضاً ببقايا حياة. امرأة ميتة تحتضن طفلها القتيل، وجدت المراسلة من المفيد مقارنتها بمحمد الدرة، واستفاضت خطابياً، بينما تحتضن طفلة صغيرة حية جثة أمها، فسألتها، ونصبت «الكاميرا» و«الميكروفون» في وجهها المذعور، كما حاولت استنطاق سيدة محتضرة. لعل المراسلة فخورة بجرأتها وبمجهودها، وهو حصتها من المجابهة الدائرة، حيث للرواية أهمية كبيرة. لعلها ببساطة فخورة بالشهرة التي اكتسبتها. تحتاج الشابة إلى علاج نفسي و/أو إلى الخضوع للمساءلة. وبسبب من تلك التغطية الفجة، فهي قد حلَّت مكان الفاعلين، مبددة بذلك بعض الغموض الذي يلف هويتهم… حتى إشعار آخر.
و«الغموض» هذا خاصية سورية فريدة. ففي مجازر مشابهة، كان الفاعل يضع دوماً توقيعه: «تطهير» أوروبا من اليهود في الحرب العالمية الثانية، مجازر الصرب والكرواتيين ضد المسلمين في يوغوسلافيا السابقة، أو حرب الإبادة بين التوتسي والهوتو في رواندا، حيث ارتكب الأخيرون تصفيات جماعية… كذلك يظهر التوقيع في التطهير السياسي، حين اعتبر بول بوت أن عليه توفير «نقاء» كمبوديا من أعداء الاشتراكية. وتلك كانت نسخة بدائية ومجنونة من أفكار سبق للينين التعبير عنها حين تكلم عن «تطهير الأرض الروسية من هذه الحشرات الضارة»، وكان يقصد «الحرس الأبيض». ثم أبدع بعد ذلك ستالين في ممارسة «التطهير» السياسي والإيديولوجي… وأما قادة الولايات المتحدة الأميركية وآباء تكوينها واستقلالها، فسبقوا الجميع. فتناول جورج واشنطن وتوماس جفرسون (وهما الأشهر والأكثر احتراماً!) ضرورة «تطهير البلاد» من سكانها الأصليين، من يُسمَون بالهنود الحمر. قال الأول إن بلاد قبيلة «الايريكوا» لا يجب أن «تُغزى فحسب، بل أن تدمر»، وأوضح الثاني انه «متى ما بُدِئَ بسحب البلطة على قبيلة ما، فيجب عدم التوقف قبل استئصالها».
و«مشكلة» الوضع في سوريا انه يجمع المجد من أطرافه، إذ تتقاطع معطيات القتل أو «التطهير» (وفق التسمية التي استخدمتها السلطة السورية في بياناتها الرسمية) على أساس الهويات الجمعية، وهي هنا مذهبية، مع تلك السياسية و«الإيديولوجية»، حيث القتل طائفي ولكن مبرره سياسي: هناك «عصابات» ينبغي استئصالها، «عدو» داخلي مدعوم من عدو خارجي.
في الدراسات حول المجازر، يتم تسجيل ذلك الرُهاب (البارانويا) الذي يسيطر على السلطة، بوصفه إحساساً عميقاً بالقلق وبخطر الموت، فتطغى معادلة «موتك هو حياتي». وقد خلد الشاعر الالماني هنريش هاينه المعادلة الإنسانية السقيمة في واحدة من قصائده: «… ينبغي بالتأكيد على المرء الغفران لأعدائه، ولكن ليس قبل شنقهم». وحين حاول بريمو ليفي، حال وصوله إلى أوشفيتز معتقلاً، فهم تلك المعادلة، فطرح «لماذا؟»، أجابه جلادوه بصلف: «هنا لا يوجد لماذا»، كما نقل في كتابه «إنه إنسان». ولكن «لماذا» تلك، على صعوبة الإجابة عنها، ضرورية. فالكف عن محاولة الفهم انتصار للجلاد، عبّر عنه يأس بريمو ليفي من الإنسان، وانتحاره في شيخوخته.
فلماذا داريا، وقبلها الحولة، وقبلهما التريمسة… وهي متشابهة وإن تكن تصاعدية لجهة عدد الضحايا. تتقاذف السلطة والمعارضة المسؤولية عن تلك المجازر. وتلك خاصية سورية ثانية، حيث في العادة «تطبع السلطات المهيمنة بصمتها على الأجساد» (بحسب فوكو)، فتنفَذ المجازر كشكل من أشكال السيطرة الاجتماعية، أو من الاستعراضية المُثْبتة للتفوق. والسلطة غالباً ما تبرر ذلك بالحاجة إلى تطهير الجسم الاجتماعي، ولو كان بثمن تدميره، والإثنان مترابطان تماماً. فوحده تصور واهم، أو كاذب، يمكنه الاعتداد بالتطهير من دون التدمير. ولا يمكن كذلك فصل كلمة «تطهير» تلك عن نقيض الطهارة، وهو النجاسة. ولا يوجد بالطبع من يدافع عن الإبقاء على النجاسة!
وإن احتاجت الحقيقة الموثقة لمجازر سوريا إلى وقت حتى تظهر ويتم الفصل فيها، إلا أن القناعات هنا لا تنتظر تلك الأحكام القضائية المبرمة، والتي قد يأتي زمانها لأن «البلطات المسحوبة» لم تستأصل القبيلة، وهي هنا باتساع شعب بأكمله. والقناعات متشكلة، وهي تعلن مسؤولية النظام عن تلك المجازر.
ولعدم الاستئصال ذاك عيب آخر، غير القدرة في المستقبل على الشهادة والتوثيق وإصدار الأحكام. فهو، وبشكل فوري، يستحث على الانتقام. ويخشى ألا يطول الزمن قبل أن تحدث في سوريا مجازر جماعية مضادة، تطال مساكين آخرين يصدف أنهم علويون، وأن قراهم أو أماكن سكناهم تقع في متناول يد الخصوم… أو أنهم مسيحيون، أو سوى هذه أو تلك من «الأقليات» التي يفترض أنها تدعم النظام السوري أو تتردد في إدانته. فهل الإحجام عن هذه المجازر حتى الآن (خلا حوادث ضيقة للغاية)، هو دليل وعي لدى المعارضة السورية، رغم الفوضى العظيمة التي تسود في أوساطها؟ أم هو دليل على هوية المرتكبين الكلاسيكيين للمجازر التي وقعت، وهي عادة السلطات التي تهدف، بواسطة الترويع، إلى إثبات تفوقها، والحاجة للخضوع لها؟
علاوة على ذلك، ومن ضمن محاولات الفهم الشاقة، فثمة «سبب» يرد كثيراً فيؤكد تلك الفرضية، ويتعلق بخلق شعور جماعي بالخوف: خوف لدى المستهدَفين المحتمَلين مستقبلاً بتلك المجازر (التي تشبه القصاص، أو العقوبة)، وخوف لدى من تُرتَكب تلك المجازر باسمهم، وإن ضمناً. لأنه لا يخفى على أحد ما يتردد، مِن أن المرتكِبين هم أفراد الميليشيات المسماة «الشبيحة» ـ وهم في أغلبهم الأعم علويون ـ مما يرتب مسؤولية مخيفة على «طائفتهم»، إلى حد دفعها للتماسك وراء «حاميها» المتوفر، وإعادة تشكيل «عصبيتها» بفضل الخوف الذي ينتابها، وشعورها بالتهديد، ورغبتها الطبيعية بإلغاء هذا الخطر الذي يتهددها. وكلما زادت الجريمة، ارتفع منسوب الشعور بالخطر من انتقام مقبل، وسيطرت مجدداً معادلة «موتك هو حياتي». ومن عاش حروباً أهلية يدرك تماما فعالية هذا الأمر، وهذه في سوريا تصنع بتوءدة. ورغم أن آلافاً من الفاعلين النشطين في المعارضة السورية، وعشرات من ألمع مثقفيها وفنانيها، هم علويون، إلا أن الاشتغال على الغرائز وعلى ردود الفعل الرُعاعية يمكنه بيسر تجاهل تلك الحقيقة.
وأخيراً، فلا شك أن المعنى الذي يمنحه الجلاد لفعلته أهم من الأسباب الاجتماعية الموضوعية التي تحيط بتلك الفعلة. ومن المقلق حقاً ومما له دلالة في هذا السياق، أن تكون تصريحات المسؤولين السوريين تدور كلها حول رفض مبدأ التسوية السياسية (وهي باتت «مبدأ» لأن اشتراطاتها لم تعد متوفرة، أي فات وقتها على الارجح!)، أو تأجيل قبولها (مثل الغفران لدى هاينه) إلى ما بعد «شنق الأعداء». فبشار الأسد «باق إلى الأبد»، وهو ينوي توريث حكمه لابنه، على ما صرح لمراسلة قناة تلفزيونية أميركية شهيرة منذ أشهر. وهو اليوم يعلن انه لن يسمح بمرور «المؤامرة» «مهما كلف الثمن»… يا للهول!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *