
في الأثناء، ما انفك النظام يُنكر الواقع، ويبشر بقرب تطهير البلاد من «العصابات الإجرامية» المتسللة إليها، والتي «غررت» بالسكان. وأنها مسألة أيام و«فلول». وما زال تلفزيون النظام يتصرف وكأن سوريا بألف خير، فيتناول في آخر النشرة الإخبارية سعر صرف الليرة السورية بالمقارنة مع العملات الأجنبية. هذا بعد أن تكون وزيرة السياحة قد صرحت عن ترتيبات تخص هذه أو تلك من المواقع الأثرية، وبعد تحقيق مصور عشية عيد الفطر يظهر شابات أنيقات «يتفتولن» في الأسواق العامرة، بحسب تصريحهن الوادع! وبينما يضاعف النظام من القتل والحرق والاغتصاب والاعتقال، تمر محاولاته الإعلامية بلا أثر، اللهم إلا الفكاهة، وترسل كبريات الصحف العالمية مراسلين يرافقون المقاتلين هنا وهناك لأسابيع، ويجيبون بعد عودتهم على أسئلة القراء كما فعلت «لوموند» مستخدمة إحدى مشاهير الإعلام، فلورانس أوبُناس (التي اختطفت لنصف سنة في العراق العام 2005، حين كانت تعمل مراسلة لصحيفة «ليبراسيون» الفرنسية)، أو ينشرون «بورتريهات» تفصيلية لمجموعة «أسود التوحيد» العاملة في منطقة حلب، ولقائدها عبد الحكيم ياسين، على مدى ست حلقات كبار في «نيويورك تايمز».
ولعل تلك التغطية الإعلامية تعوض بعض العجز الميداني الغربي، الذي وإن سلح جهات في المعارضة، وأمدّها بالمال (العربي)، والتقنيات، والتدريب، والتخطيط والرصد… وما شئتم، ولكنه، وبوضوح، يعلن أن لا تدخل عسكرياً مباشراً، في الوقت الراهن على الأقل، وهو وقت قد يمتد ويطول، بل ويستمر. والإحجام الغربي عن اتباع ما ارتكبه في النماذج العراقية (وهو احتلال شرس، سبقه ورافقه تدمير ممنهج للبلد) أو حتى الليبية، مفهوم، وله أسبابه المعلنة والمشبعة درساً. ولكن المعارضة، أو أغلبها الساحق والأكثر نفوذاً، ورغم إدراكها لذلك الاستعصاء، إلا أنها لا تتوقف عن مطالبة الغرب بالتدخل، محتجة ببحيرة الدم المسفوك والظلم الفظيع اللاحق بالناس… وهي حجة غير فاعلة سياسياً، رغم أهميتها الأخلاقية.
وطالما أننا أمام حرب عالمية بالوكالة، فروسيا، الحامي الدولي للنظام السوري، تسرِّب معلومات متضاربة توحي كل الوقت بمسافة ما عنه، وباستعداد لرؤية ما يلي. وأهم تلك التسريبات على الإطلاق، تلك الخاصة بمصير ماهر الأسد، وهو رجل/مفتاح لجهة قدرات النظام على القمع بل ومجمل مصيره. ولكن التسريبات السياسية الروسية لم تلق آذاناً صاغية، بينما تمتلك موسكو إحدى الإمكانات القليلة لتوفير خروج من المأزق التام القائم. يتطلب الأمر بالطبع الاعتراف بمصالح روسيا في المنطقة وتوفير ضمانات لازدهارها، كما يتطلب الموافقة على ترتيبات «انتقالية» تخص النظام السوري، حفظاً لماء الوجه على الأقل، والأهم من ذلك بكثير، ضبطاً للسياقات السياسية اللاحقة على التغيير الذي يمكن أن يقع. لا تريد واشنطن منح موسكو مثل هذا الامتياز، وتفضِّل انتظار لحظة امتداد يد النظام للأسلحة الكيمائية لتعلن أن الخط الأحمر قد مُس، ولتتخذ تدابير من «نوع آخر»، غير الإدانة السياسية للنظام والدعم اللوجستي للمعارضة. وهذه مهلة طويلة.
وتعتمد المعارضة، أو بعضها، المنحى الغربي نفسه، وإن بمسميات وتعابير أخرى. هناك من يقاتل على الأرض ويعتبر أن المعركة ستحسم عسكرياً، مُقراً في الوقت نفسه بكلفتها الهائلة، حيث يجري تدمير البلد بالمعنى الحرفي للكلمة. لا يتورع النظام عن استخدام الطائرات الحربية لقصف الأحياء السكنية، ولا تتورع الفصائل المسلحة عن الاحتماء بالمدنيين. ولا تمثل تلك الملاحظة نية للمساواة بين الطرفين، ولكنها تشي بِعظَم المأزق وبامتداده جغرافياً وزمنياً. يقول بعض المعارضة إنها بصدد تشكيل حكومة بديلة عن النظام، وهي لن تكون في المنفى بل، وكما صرح منذ أيام السيد هيثم المالح، ستعود مباشرة بعد إعلانها إلى كل البلاد (فرضية السقوط الوشيك للنظام)، أو بعضها (فرضية قسمة البلد بين مناطق «محررة» وأخرى ينبغي تحريرها، أي مشروع حرب لا نهاية منظورة لها).
وفي أثناء استقرار سياق الحرب التدميرية المديدة هذا، يرتفع منسوب الاستقطاب المذهبي إلى أعلى درجاته، ويصبح الكلام عن «السنة» و«الشيعة» و«العلويين» و«الأقليات» و«المسيحيين»… هو الطاغي، ليس في سوريا نفسها فحسب، بل في المنطقة برمتها، وفي كل بلد من بلدانها. وهو تفكيك وتفتيت لا يقلان خطراً عن ذاك الذي يتهدد الأرض، لا سيما حين يتبعهما وجود عملي لميليشيات تعمل بمقتضى الشيء وتكفِّر الجهة المقابلة، ما يعني شرعية استئصالها. ذاك هو فشل التغيير وقواه، وإن كانت المسؤولية عنه تقع بالدرجة الأولى على عاتق النظام القديم الذي لا يتورع عن توظيف أي شيء حماية لاستمراره. هو فشل موضوعي، وبغض النظر عن النقاش حول نصيب كل طرف من تلك المسئولية، وعن الإمكانات والخيارات المفوَّتة. وهو يطرح سؤال المسلك الذي يُفترض بقوى التغيير أن تسلكه، متجنبة في آن الموقف المترفع والنخبوي/الثقافوي الذي لا يريد التلوث، وموقف الالتحاق بالواقع كما يقدم نفسه بحجج تبدأ من عند أن التاريخ يفرض نفسه، وأن الـ«لو» والـ«إذا» لا وجود لهما في مساره، وتمر بفكرة المرحلية («لننه النظام اليوم، وسنرى بعد انتهاء المهمة الملحة»)، لتنتهي بفكرة ساذجة تتكلم على أن شرط القدرة على التأثير في هذا المجرى هو الانخراط فيه! لا حلول مقترحة ها هنا ولا نية بالنصائح، ولكنه تعيينٌ للمأزق لعله يفيد في شيء… محاولة ممن لا يتلقون القنابل على رؤوسهم لرسم المشهد، كخطوة أولى (ربما) للوقوع على بصيص نور، على مخرج يمكن اشتقاقه لإنهاء النظام القائم من دون تدمير البلد فوق ما دُمِّر وتمزيقه، أو لتلافي أن يكون النظام التالي بسوء سابقه. ومن يُنكر هذه الهموم، يتساوى مع إنكار أهل النظام القائم لشرعية الانتفاض عليهم، ولضرورة زوالهم!