حدثني قلبي منذ آذار من العام 2011 بأن معاناة وطني السوري ستطول. وبأن دماء زكية كثيرة ستهرق وأرواحاً بالآلاف ستزهق ودماراً مرعباً سينال من المعالم والشوارع والمنازل، وسيتحول بعض ليس بالقليل من السوريين نازحين ومهاجرين أو مشردين تائهين داخل بلدهم أو خارجه.
ولقد عبرت عن حديث قلبي هذا وعن مخاوفي لكل من حدثني أو سألني عن بلدي خلال الشهور المنصرمة التي أمضيتها هائماً على وجهي، قامعاً دمعتي، حاملاً حقيبتي وحزني وكآبتي وأوجاعي، متنقلاً على مضض بين عاصمة واخرى ونتيجة إصرار أولادي وأحفادي على ألا أبقى وحيداً مع شيخوختي وسط ما يحيق ببلدي من مخاطر وما يعيشه من اقتتال دام وفوضى عارمة…
ولم أكن لأستجيب لنداءات الأولاد والأحفاد لي بالمجيء إليهم والابتعاد عن دمشقي وبيتي ومراتع الصبا ومجالسي لولا تقديري لمخاوفهم من ان أموت على أي نحو من دون ان يتمكنوا من المشاركة في تشييعي ودفني لاستحالة وصولهم إليّ حياً مريضاً أو جريحاً ليعالجوني أو فقيداً ليودعوني الوداع الأخير.
ومع كل مغادرة لدمشقي نحو ولد من أولادي، كان دعائي إلى الله ألا يكون مثواي وقبري إلا فيها وتحت ترابها وإلى جوار أبي وأمي وزوجتي وكل من تركني من الأقارب والأصدقاء ومضى إلى ربه راضياً مرضياً وتركني أواجه مصيري، في مواجهة هذه الأيام السود والليالي الحالكة الحافلة بكل شرور ومصائب الاحتراب والاقتتال والقصف والتدمير وكل أصناف الممارسات العجيبة والرعناء واللامسؤولة والعصية على الفهم والاستيعاب؟!
ولولا يقين أولادي باستحالة قدرتي على معاينة ما يحصل في بلدي ومواجهة ما يجري وما يحل به لما ألحوا على ضرورة ووجوب مغادرتي وطني والابتعاد عن دمشق، فهم قدروا ان سني قد جاوز فترة الصمود، وعرفوا انني لم أتعلم ولم أمارس إلا مهنة القلم، ولم أحمل يوماً غيره سلاحاً ولم اختبر غيره أداة للدفاع عن حق أو رأي أو موقف أو لمخاصمة باطل أو خطأ أو تجاوز، عرفوا عن حق، وأدركوا، عن صواب، ان لا مكان لي وسط ما يحصل ولا دور لي في هذه المهزلة الدامية وأجوائها الموجعة وتداعياتها المحصنة وآفاقها البالغة السواد والقتامة والمنذرة بأسوأ العواقب وأردأ النهايات…
وما تمنيت يوماً عودة الشباب ولا أسفت يوماً على شيء مضى قدر أسفي على اعتمادي القلم سلاحاً وحيداً من دون حسبان ليوم لا ينفع فيه هذا السلاح ولا دور له ولا مكان، كما هو حال يومنا هذا، والذي لا متسع فيه ولا مقدرة عليه ولا منجاة منه ومن عواقبه ومما سيترتب على مجرياته وجرائمه وفظاعاته من نتائج وآثار يعلم الله وحده إلى متى ستستمر وإلى أين ستصل بسوريا وأهلها وأخلاقهم وقيمهم ووحدتهم الوطنية وتلاحمهم وتراحمهم الذي كان مضرب الأمثال ومحط آمال الأشقاء والجيران، ومدعاة غيظ غير كظيم للأعداء والمتربصين والحاقدين على كل القيم الرفيعة والمناهج القويمة والأخلاق السامية عن كل رخيص مبتذل وكل ممارسة رعناء مشبوهة وتصرف ممقوت ومدان.
[ [ [
… وتطول معاناة بلدي، وتطاول براءة دمشقي ورائحتها ووداعتها وهي الحافية العطوف المعطاءة المشعة، وينال المتطاولون المتقاتلون من أحيائها المتحانية ومنازلهم المتكئة جدرانها وشرفاتها على بعضها البعض بحب وتعاضد ورفقة عمر استمرت دهوراً وتحدت عصوراً وكوارث وغزوات.. فأي إله يعبد هؤلاء وأولئك المتطاولون عليها وأية غاية أو هدف يرجون، أو نهاية يأملون بعد ان أطفأوا أنوار دمشق وغطت سحابات الدخان الأسود سماءها الزرقاء الصافية وهدمت نيرانهم وأحرقت بيوتها وحاراتها، وأوقفت رعونتهم تدفق المياه إلى بحراتها وسواقيها، اية غاية يرجون وأي هدف يأملون بعد ان اعدموا كل شجر غوطتنا؟ وأي ثمر سيأكلون بعد زوال حبات المشمش والدراق والعنب والكرز؟ وأية رائحة ينتظرون بعد جفاف شجيرات الياسمين والورود الدمشقية والغصون المزهرة الفواحة…
ألا بئس ما فعلتم وتفعلون كائنة ما كانت غاياتكم وما تنشدون وإلى أية قبلة تصلون.
وإلى أي فكر تنتمون أو مغنم أو موقع تتمسكون به أو آلية تتطلعون أو تطمعون…
[ [ [
إن ما جرى ويجري في سوريا ليس عصياً على الفهم بعد ان توضحت مقاصد المتقاتلين فيها، وبعد ان فضحت ممارساتهم تلك المقاصد وليس فيها ولا منها مقصد يتصل بمصلحة سوريا والسوريين، فصاحب أي مقصد نبيل ينأى بنفسه عن مثل ما ارتكب ويرتكب بحق سوريا والسوريين من حماقات وجرائم إنسانية وحضارية، والهدف النبيل يقتضي مسلكاً نبيلاً إليه وطرقاً سوية نحوه، لا تجرى فيها الدماء سواقي ولا تحفر على جوانبها أخاديد الحقد والضغينة والإجرام التي لن ينبت فوقها شجر ولن يبنى على جوانبها حجر ولا ينجو منها بشر…
لقد كان بالإمكان تجنيب سوريا والسوريين الكارثة لو كان لسوريا الوطن مكان ومكانة عند المتشاركين في صنع الكارثة، أو لو كان لأرواح السوريين ودمائهم وكرامتهم محل في أولويات ومسلمات هؤلاء وأولئك المتشاركين بلا تفاهم ولا اتفاق في إحلال ما حل وحصول ما حصل، وهو هائل مريع ومخيف وبكل المقاييس، ولم يسبق ان دفع شعب ثمناً لإزالة نظام مرفوض على هذا النحو الفاحش، كما ولم يسبق ان تمسك واحتفظ نظام بموقعه بكل هذا الحجم من الأنانية والنرجسية والأساليب الشرسة، وماذا بقي من الوطن ومن المواطنين ليربحه أي من المغامرين بالوطن والمقامرين بأرواح أبنائه ودمائهم وكراماتهم؟!…
[ [ [
لست أبالي، وأنا قاب قوسين أو أدنى من الحفرة التي ستضم جثماني من قول ما قلت وكتابة ما كتبت، فوطني السوري ودمشقه ودمشقي أغلى وأعز وأقدس من ان أمضي قبل أسجل بأن ما حاق ببلدي كان جريمة موصوفة مروعة ارتكبها من كان لا يعرفها وبمشاركة غبية من المتطلعين الى حكمه بالإكراه، وليس قدر سوريا ان تحكم غصباً ولا ان تغتصب على هذا النحو المخجل للأجيال المقبلة من السوريين الذين من حقهم وحدهم ان يختاروا مصيرهم من دون اغتصاب ولا إكراه وبالطريقة القمينة بإيصالهم إلى ما ينشدون من حرية ومساواة وعدالة وكرامة وبما يليق بتاريخهم وإرثهم الوطني والحضاري.
إن المواطن السوري الآن محاصر بين الموت تحت القصف وبالقنص والتفجير ومن الجانبين، وبين النزوح عن الوطن الى حين يحسم الاقتتال مسألة من سيحكم هذا الوطن، ولن يكون هذا الحسم المرتجى نهاية المطاف إلا إذا جاء في مصلحة كل السوريين، من نزح منهم ومن شارك في حماية النظام او شارك في حرب إسقاطه، ومجيء الحسم في مصلحة طرف من دون آخر سيجعله مجرد محطة يتوقف فيها لقليل او كثير من الوقت قطار التغيير الذي لم ولن يغير وجهته نحو الديموقراطية والعدالة والمساواة.
[ [ [
«تبّت أيديهم»، ولن يغني عنهم سلاحهم وما كسبوا وما سكبوا من دماء السوريين عسكراً ومدنيين رجالاً ونساء وأطفالاً، وليعلموا جميعاً ان كل نقطة دم سورية أرهقت وكل روح سورية أزهقت سيكون ثمنها غالياً جداً في يوم الحساب وعند حلول العقاب! فالدم السوري أهم وأثمن وأقدس من كل نظام، أي نظام، وتحويل السوريين ـ الذين احتضنوا كل لاجئ ونازح ومهجر وملاحق فأمنوه وكانت دمشقهم ملجأ كل خائف ـ نازحين ومهجرين ومشردين وجرحى وشهداء قد جعل وسيجعل قتالهم، إن حماية للنظام أو سعياً لإسقاطه جريمة شنعاء لا يقدم عليها عاقل ولا يرتكبها وطني مخلص من واجبه المسبق معرفة ثمن وأبعاد ما هو مقدم عليه ومناضل من أجله ومقاتل في سبيله…
[ [ [
حرام، حرام، حرام، ان تكون هذه الدماء والأرواح والخراب والدمار والنزوح والتشرد وكل ما حل بسوريا والسوريين ودمشقهم من فظائع ثمنها لنظام، أي نظام، او لإسقاطه تحت أي لافتة وشعار.
وماذا سيكون ويبقى للنظام إن استمر؟! وماذا سيرث من تصدى وبهذه الوسائل المدانة لإسقاطه؟!
حرام ان تسقط دمشق وتخرب سوريا على يد أبنائها «لينجزوا» ما لم يستطع كل أعداء سوريا والعرب والمسلمين تحقيقه، أي إلغاء سوريا وطعن قلب العروبة النابض أبداً بالنضال الحق والكفاح المشروع والعمل الوطني والقومي والإنساني المشرف…
إن المتقاتلين دفاعاً عن النظام او نضالاً لإسقاطه ليسوا ومجتمعين هم الأكثرية الغلابة من شعب سوريا التي أحالوها بما فعلوا وارتكبوا ويرتكبون إلى مجاميع من النازحين من القتلى والجرحى والنازحين والخائفين، مهددة أرواحهم وأرزاقهم وبيوتهم وأعراضهم، يختبئون في الأقبية او متشردين في الشوارع والأزقة والبساتين..
ولم يكن سراً غائباً أن معظم السوريين لم يكونوا مع النظام بالمطلق وأن غالبيتهم كانت تدين وتشجب وتتحفظ وتعارض الكثير من الممارسات القمعية والفساد، وها هم السوريون الآن في معظمهم على ما تراه كل عين وعدسة، يعيشون المآسي والويلات، يتامى وأيامى وثكالى وجرحى وأرامل ونازحين ومشردين وخائفين على أنفسهم وعلى الوطن ومن المستقبل، ناهيك عن الحاضر القاتم الحالك ألممض المفجع والذي يحجب دخان الاقتتال عن الانظار كل رؤية وتوقع ورجاء… ويحجب صوت المدافع والقصف والرصاص وأزيز الطائرات كل سمع لأي تذكير ونداء ومناشدة وأمل ورجاء…
ونستطيع القول، وبتحد واثق، إن الأكثرية الغلابة من شعب سوريا ليست الآن ولم تكن تناصر او تؤيد النظام، كما وأنها ليست الآن إلى جانب الاقتتال، ولم تكن يوماً لتناصر او تؤيد التغيير بطريقة دموية فتاكة كهذه، وبصرف النظر عمن كان البادئ الأظلم، فإن تجنب الخاتمة الأكثر ظلمة وحلكة هو الذي يجب ان يكون محط النظر، كل النظر، ومؤمل كل عمل مخلص، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه… ومع ان هذا الممكن صار ضئيلاً جداً لكنه يظل أفضل من الفادح القادم مع أي حسم سيكون وبالتأكيد ومن أية جهة، حسماً بلا أفق ومن دون قاعدة ولا منطلق ولا هدف مشروع، لأن الشرعية لأي هدف تكمن في مدى تبني الشعب كل الشعب لهذا الهدف، فأي بلد وأي شعب ترك المتقاتلون وخلّف المتقاتلون وراءهم، وكيف سيواجه الطرف الحاسم الواقع المرير وصرخات الموجوعين والمنكوبين والمهجرين والمشردين ولعنات الأرواح البريئة التي أزهقت؟!…
وبديهي ان كل السوريين الذين نزحوا إلى البلدان المجاورة يصلّون وبإيمان وإخلاص من اجل ان يجنب الله هذه البلدان الشقيقة وأهلها تداعيات الحسم في سوريا، وكائناً من كان صاحبه فلا صحبة ولا صاحب لهذه البلدان وأهلها إلا الجيرة الخيّرة والجيران الأخيار وهي وهم على ما يبدو وللأسف مغيبة ومغيبون عن هذا الحسم الكاذب الغالب…