يكثر الكلام في الأيام هذه على الطائفية في سوريا، فيختلط الواقع بالشائعات، ليتحدث بعضهم، على سبيل المثال، عن عمليات “تطهيرٍ طائفي” طالت 90 في المئة من مسيحيي حمص (وكالة فيديس الفاتيكانية 12/3/2012)! من المؤكد أن المبالغة هنا فاضحة، لكنها، على الرغم من ذلك، لا تستطيع أن تنفي تصاعد الظاهرة الطائفية في بعض المناطق. ففي حمص مثلاً، طَردت مجموعةٌ من “الثوار” أشخاصاً من بيوتهم، الأسبوع الفائت، مستفيدةً من انتمائهم الطائفي، ليتم الاستيلاء عليها. كما شهدت القصير، الأسبوع نفسه، أعمال خطف من الروح ذاتها. لا تقتصر الطائفية هنا على بعض الأعمال الفردية التي قام بها فلان وعلتان، بل تتسلّل الحال، شيئاً فشيئاً، إلى اللغة والثقافة، ليوصِّف بعض “الثوار” “الشبّيحةَ” استناداً إلى طائفتهم، لا إلى أعمالهم! في المقابل، دفعت المماهاة هذه بين الدين والسياسة بعض الناشطين، من أبناء “الأقليات”، إلى ابراز انتماءاتهم الطائفية، كلّما تسنّى لهم ذلك، في محاولة منهم لتكذيب الأطروحة هذه، ليسود بعضَ المناطق جوٌّ ثقيل مشبعٌ بالشك. في الإطار هذا، صارت صفحات الـ”فايسبوك”، والمناقشات التي تعقب أفلام الفيديو الخاصة بالثورة على الـ”يوتيوب”، مجرد مكان لتبادل الشتائم الطائفية بامتياز.
لكن وصف الحال بالطائفية هنا، ليس بالبساطة هذه، أولاً لتعذر إجراء إحصاءات دقيقة للظاهرة المطروحة؛ ثانياً، لأن الطائفية لا تشكل في الواقع السوري حالةً كيميائية صرفة، بل ظاهرة تختلط بظواهر أخرى، لتقدم لنا واقعاً معقداً، صرنا نشهد فيه اقتتالاً بين “ثوار” اسلامويين وعناصر من “الجيش الحر”، تنتمي غالبيتهم إلى الطائفة السنية (راجع مثلاً تحقيق قاسم حمادي المنشور في جريدة “السفير”، 12/05/2012، وما جاء فيه على لسان العقيد المنشق قاسم سعد الدين). هنا، تتشابك عوامل عدة، اجتماعية، اقتصادية، وسياسية، مع المكوِّن الديني، لتنسج حالةً من التشدد الطائفي والايديولوجي العويصة، لا بد من مجابهتها.
لتفشّي الطائفية أسبابٌ كثيرة، يعود أهمها إلى وحشية النظام في التعامل مع الثورة، على نحوٍ ولّد فيه عنفاً مضاداً، اتسم أحياناً بألوان طائفية، نظراً إلى تركيبة مجتمعنا السوري وعلاقته بالدين، وإلى إمكان تداخل البعد الديني فيه، بدرجات متباينة، في نسيج الهوية. على مستوىً آخر، تضافرت سياسات النظام الإعلامية والأمنية (المباشرة منها وغير المباشرة) من أجل محاولة كسب الأقليات، من خلال زرع الخوف بين أبنائها. هنا، يكفينا أن نتذكر كيف عمل النظام جاهداً على تشويه صورة الثورة، من خلال تقديم الحراك، منذ أسابيعه الأولى، على أنه صراعٌ طائفي، مسيّس سلفياً، في الوقت الذي كانت فيه سلمية الثورة ناصعةً، وشعارات الوحدة الوطنية، التي تغنّت بها، هدّارة. في السياق هذا، تمّ اختلاق مجموعة من الشعارات، كشعار “العلويون إلى التابوت، والمسيحيون إلى بيروت”، الذي نُسب إلى الثوار من دون أي فيديو يوثّقه. كذلك، تمت فبركة أفلام وأحداث عنف، وقصص، كان لها أثرٌ بعيد المدى في نفوس البعض، على الرغم من سوء “إخراجها”، ليستولي على الكثيرين منا قلقٌ من آخَر “مؤبلس” يسنّ سكّينه للذبح!
ترافقت الحرب الإعلامية والأمنية هذه بممارسات أخرى، ممنهجة وعفوية، لا مجال للخوض فيها هنا، عزّزت أجواء التوتر الطائفي، كاستهداف الشبّيحة بعض أماكن العبادة، وما لازمها من تدنيس للمقدسات.
لكن النظام لا يتحمّل وحده مسؤولية ما نعيشه اليوم، فلمواقف الكثير من المؤسسات الدينية، التي استسلمت للخوف، حصّةٌ في ما يجري. هنا، لم يتردد الكثير من رجال الدين في فضح ما اعتبروه “مؤامرة”، وفي نقد الحراك الشعبي، منذ أيامه الأولى، في الوقت الذي لم يتجرأ فيه كبار المسؤولين الدينيين على إدانة وحشية النظام في التعامل مع الناشطين، التي لا تخفى على أحد، لا بل كالوا له المدائح! في الإطار هذا، صرنا نسمع تصريحات جارحة من رجال دين، كتلك التي تعتبر النظام السوري أفضل الديموقراطيات العربية، أو كتلك التي تؤكّد اكتظاظ جامعة حلب بالمسلّحين الأجانب، على الرغم من أن شهداء الجامعة كانوا كلهم من السوريين، وأن مداخل الجامعة ومخارجها، أجمعها، تقع تحت مراقبة الأمن!
أما المعارضة السياسية، فتتحمل أيضاً مسؤولية كبيرة في الوصول إلى ما نحن عليه، بسبب ضعف برامجها واستراتيجيات عملها، وعدم إيلائها الملف الطائفي ما يستحق من أهمية. فلا برامج توعوية عن الطائفية، ولا تقارير دورية لمتابعة الموضوع، ولا شفافية في عمل “المجلس الوطني”، بل تسترٌ على أخطائه الذاتية، بما أفقده الكثير من صدقيته، لتخسر كلمتُه وزنَها في شارعٍ متأجّج. لكن الأخطر من ذلك كله، هو ما بات يرشح عن سعي بعض أطراف المعارضة السياسية، إلى تأسيس جماعات مقاتلة، مرتبطة بها عقائدياً، ذات طابع اسلاموي تكفيري، مستفيدةً من الصراعات الإقليمية والدولية، ومن انغلاق الآفاق السياسية، ومن التجيّش الديني والعاطفي. مع تنامي التيارات السياسية أو العسكرية المتشددة هذه، شهد واقع الثورة تصاعداً حاداً في مذهبة الشعارات، كما اتسمت أسماء الجُمَع بلون إسلامي قائم على الاقصاء والاستجداء المذهبي، بشكل يثير الشكوك في آليات العمل التي يتبعها بعض الأطراف المعارضين، بما يخدم مذهَبَة الثورة.
كما ارتبط التوجّس الطائفي من الآخر الآخذ في الانتشار مع عامل جديد، هو الفلتان الأمني، الطبيعي منه والمتعمّد، بما سهّل مهمة اللصوص وقطّاع الطرق (من الأطراف جميعهم) في الافادة من الظروف الحالية، للقيام بأعمال سلب ونهب وخطف تحت مسميات عدة، أخذ بعضها اسم “المقاومة”! وطُعِّم الفلتان هذا بمحدودية قدرة المعارضة العسكرية على تنظيم نفسها، لتختلط أوراق المسلحين بعضها ببعض، على نحو صار فيه من المضحك الكلام على معارضة عسكرية بصيغة المفرد!
لكن، على الرغم من هذا كله، لا تزال رقعة التوتر الطائفي محدودة نسبياً، ولا يزال عند الكثير من السوريين الوعي الكافي لمواجهة الظواهر هذه، التي تقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية مجابهتها، كلٌّ بحسب موقعه. تالياً، لا بدّ من تفعيل العمل الصحافي الشبابي، خارجاً عن الوصاية الصحافية للثورة، ليتسم العمل بروح الشفافية التي لا تحابي أحداً، مطلقةً على الأشياء أسماءها الحقيقية، وفاضحةً مسارات الطائفية ومهندسيها، على الرغم من سيل تهم التخوين التي قد تنهال على العاملين بها. في الإطار هذا، صار من الضروري إنشاء فرق عمل خاصة لرصد أحوال المجتمع المدني بظواهره الإيجابية والسلبية، وبما يعتريه من خروق أو تشوّهات في الوعي العام. ولكي يتكلل العمل هذا بشيء من النجاح، لا بد من إرفاقه، على مستوىً آخر، إن أمكن، بمشاريع إخاء أهلي، وببرامج توعوية خاصّة بالسكان عن المواطنة، للعمل قدر الإمكان على مواجهة ظواهر العنف الديني التي لن تجلب إلا الخراب للجميع.