بعد وصول طلائع المراقبين الأمميين.. النظام السوري أمام مأزق برأسين!


كان الحديث هادئاً على غير عادته بين قادة سياسيين لبنانيين وعرب موالين ومعارضين للنظام السوري. فلم يصرخ أحد في وجه أحد كما كان يحدث سابقاً، عاكسين بذلك الإصطفاف الحاد في صفوف الشعب اللبناني حيال سورية؛

ولم يتبرع أحد لإصدار “التنبؤءات” التي صارت شهيرة حول قرب انتهاء الإنتفاضة السورية خلال “أيام أو حتى ساعات”، أو حول قرب انتهاء النظام السوري نفسه “قبل حلول موسم الصيف”.

العكس تماماً هو الذي حدث في حفل العشاء المُغلق الذي عُقد في منزل أحد القادة الوطنيين اللبنانيين في بيروت وضمّه إلى ثلاثة قادة آخرين وناشط خليجي مقرّب للغاية من العديد من القيادات السورية. فقد خرج الجميع متفقين على أمريْن: الحل الأمني، ثم العسكري، فشل في وقف الإنتفاضة؛ والرئيس بشار الأسد خسر العديد من أوراقه الداخلية، حتى في أوساط أقليات مثل المسيحيين والإسماعيليين والدروز.

بيد أن الجلسة لم تقتصر على التحليل، بل تضمنت الكثير من المعلومات التي كان أهمها تلك التي وصلت مؤخراً إلى العاصمة اللبنانية، والتي تتحدث عن امتعاض روسي حاد من سياسات القيادة السورية الحالية. وهو تطور سنتطرق إليه بعد قليل.

وقد لخّص الناشط الخليجي كل ما دار في الجلسة بقوله: “كنا طيلة السنة الماضية نجتمع معاً ونختلف معاً على كل شيء، في التحليلات كما في المواقف. لكن يبدو الآن أننا بتنا متفقين على أي شيء، لأن النظام السوري من أسف لم يترك مجالاً لأحد كي يتفق معه. إنه خارج السمع”.

حكم العادة

هل هذا الخلاصة دقيقة؟ أجل، ويبدو إلى حد كبير أيضا. فطيلة الشهور الـ 14 الأخيرة، كان النظام السوري الحالي يمضي يومه وكأنه سيعيش إلى الأبد، ويتصرف وكأن الإنتفاضة الشعبية ستموت غدا. وهذه الحالة النفسية كانت وراء كل التضارب الذي وقع فيه أنصار النظام حول قرب انتهاء الأزمة، وهي حالة نجمت على الأرجح عن العادة: إذ تعوَّد النظام السلطوي السوري طيلة السنوات الأربعين الماضية أن يفرض الإستقرار بقوة القمع والخوف. وكان هذا ناجحاً بالأمس، فلماذا لم ينجح اليوم؟

أحد المشاركين في الجلسة البيروتية تطرق إلى هذه النقطة (أي العادة)، مشيراً إلى أن بعض قادة النظام الحالي الرئيسيين اعتقدوا أنهم بمثل هذه السياسة يسيرون على درب النهج الناجح الذي خطّه الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وحافظ بموجبه على السلطة. لكنهم لم يستطيعوا إدراك أمرين إثنين:

الأول، أن حافظ الأسد كان يضع في حساباته الإستراتيجية الوضع الدولي قبل الإقدام على أي خطوة، فيكيّف سياساته الداخلية معه ويتكيّف هو معها (كما حدث مثلاً حين أرسل قوات بعثية لمقاتلة قوات بعثية أخرى في العراق تحت لواء “الإمبريالية الأمريكية” كما كانت دمشق تصفها آنذاك، أو حين قَبِل كل شروط تركيا كاملة خلال النزاع حول حزب العمال الكردستاني في نهاية التسعينات).

والأمر الثاني هو أن ظروف حافظ الأسد، حين قاتل تمرد جماعة الأخوان المسلمين في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، تختلف تماماً عن ظروف بشار الأسد في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وهو يقاتل الإنتفاضة الشعبية. فالأسد الأب كان يتمتع في تلك الفترة بشرعية من خاض حرب تحرير ضد إسرائيل العام 1973. كما أن حركة القومية العربية التي لعبت دور اللحمة بين مكونات الشعب السوري لم تكن قد وهنت بعد. هذا في حين أن  سمعة جماعة الإخوان المسلمين كانت لاتزال في الحضيض على المستوى الشعبي العربي، بسبب ما وُصف آنذاك بتحالفها مع “الرجعية والغرب” ضد حركة التحرر القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر.

والأهم من هذا وذاك، أن حافظ الأسد كان يحظى بقبول دولي واضح ومميّز، إلى درجة أن الإعلام الدولي لم “يعترف” بكارثة مجزرة حماه إلا بعد ثلاثة أسابيع من انتهائها. وحتى حين طفت أخبارها على السطح، لم تصدر أيّ إدانة دولية حقيقية لها.

أما في عهد بشار الأسد، فسوريا برمتها خاضعة إلى الحجر الصحي الدولي. وهو حجر عززته إلى حد كبير أدوات ثورة المعلومات، من الهاتف المحمول والفايس بوك والتويتر، إلى الفضائيات وأجهزة الإتصالات المتطورة. هذا إضافة بالطبع إلى أن كل الإستراتيجيات الغربية حول كيفية التعاطي مع الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط انقلبت رأساً على عقب.

مأزق مُـزدوج

كل هذه المعطيات تتقاطع الآن لترسم صورة يبدو فيها النظام السوري في مأزق حرج. مأزق مزدوج خارجي وداخلي على وجه التحديد، خاصة بعد أن أطلّ المبعوث الدولي- العربي كوفي عنان (والذي يوصف بأنه دبلوماسي خبيث للغاية) برأسه، ونجح في حشد التأييد الروسي والصيني لخطته الرامية لإنهاء الأزمة السورية.

في الوجه الخارجي للمأزق، يجد النظام نفسه للمرة الأولى وجهاً لوجه مع الحليف الدولي الوحيد الذي يمنع عنه غائلة التدخل  العسكري الخارجي: روسيا.  فهذه الأخيرة باتت تشعر بأن سياسات النظام السوري بدأت تلحق الأضرار الفادحة بموقعها الدولي وتحشرها في زاوية غير مريحة في تعاطيها مع كل من مجلس الأمن والتحالف الغربي. فواشنطن قبلت بعد صدور الفيتوين الروسي والصيني في مجلس الأمن بتسليم ملف الأزمة السورية برمته إلى موسكو، شريطة أن يتوافق هذا الحل مع مطالب الشعب السوري وبعض متطلبات الوضع الدولي الجديد في الشرق الأوسط حيال ثورات الربيع العربي.

بيد أن كل محاولات موسكو خلال الشهرين المنصرمين لحمل النظام السوري على إدخال إصلاحات حقيقية في النظام ارتطمت بجدار من فولاذ. لا بل قام النظام بعكس ذلك تماما: استخدم الفيتو الدولي الروسي لممارسة الفيتو الداخلي على أي إصلاحات حقيقية في بنية النظام بمشاركة قوى المعارضة، بما في ذلك حتى المعارضة الداخلية “الناعمة” المجسَّدة بهيئة التنسيق الوطني. وهذا ترجم نفسه في حملات عسكرية تدميرية شملت سورية من أقصاها إلى أقصاها.

والآن، بدأت هذه العلاقة الصعبة بين موسكو ودمشق تقترب من لحظة الحقيقة، خاصة بعدما ماقيل عن أن وزير الخارجية الروسي لافروف هدّد نظيره السوري وليد المعلم بأنه إذا لم تُوقف الحكومة السورية النار فوراً وفق خطة عنان، فإن روسيا لن تعارض أي قرار جديد يتخذه مجلس الأمن أو حتى مجلس حلف شمال الأطلسي.

والأرجح أن هذه الأنباء صحيحة، بدليل أن دمشق التزمت يوم الخميس الماضي (12 أبريل 2012) بوقف إطلاق النار وفق خطة عنان، على رغم أن المعلم كان قد صرّح قبل يوم واحد فقط بأن وقف إطلاق النار يجب أن يترافق مع وصول المراقبين الدوليين (أي عملياً بعد أسابيع عدة). لكن، إذا ما كانت الحكومة السورية تجنبّت بقرارها وقف إطلاق النار احتمال قيام روسيا بتركها وشأنها مع “الذئاب الغربيين”، إلا أنها ستواجه الآن الوجه الثاني من المأزق: الوضع الداخلي.

فقد بات القاصي والداني يعرف أن خطة عنان، التي لاتتضمن فقط سحب الجيش السوري من المدن بل أيضاً إرسال جيش صغير من المراقبين الدوليين للإشراف عليه، سيُعطي الشعب السوري فرصة ذهبية للنزول إلى الشوارع، تماماً كما حدث في مدينة حماه قبل بضعة أشهر حين تظاهر أكثر من 600 ألف متظاهر لمجرد أن محافظ المدينة وعد بعدم قمع المتظاهرين.

وفي حال تمكّنت المعارضة السورية من الإفادة من هذا التدويل الكامل للأزمة السورية بتحريك عجلة التمرد المدني، فإن حرج النظام قد يتحوّل سريعاً إلى ما هو أكثر بكثير من الحرج. إذ حينذاك قد تطفو على السطح الأجنحة في النظام السوري التي لم توافق أصلاً على الحل الأمني، والتي يقال أنها تشمل حتى بعض مسؤولي الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية، إضافة إلى العديد من الكوادر العليا السياسية.

بالطبع، يستطيع النظام أن يواصل لعبة المراوغة وكسب الوقت. كما يستطيع أن يحرّك هو أيضاً المظاهرات المضادة (كما حدث في اليمن) ومعها عمليات أمنية يتم نسبها إلى منظمات إرهابية. لكن، حتى لو حدث ذلك في ظل التدويل والمراقبين الدوليين، فأنه لن يغيّر شيئاً من حقيقة لطالما كانت واضحة طيلة السنة المنصرمة، وهي أن النظام فقد السيطرة على أجزاء جغرافية شاسعة من سورية، كما استهلك أجزاء أوسع مما تبقى له من شرعية.

ما الحل؟

ربما هذا سؤال يجب أن تجيب عليه موسكو أو واشنطن أو كلاهما معا (في حال أبرمتا صفقة ما)، لأنهما تمتلكان نفوذاً لايمتلكه غيرهما في العالم في صفوف العديد من القادة الأمنيين والعسكريين السوريين. والإجابة على مثل هذا السؤال تتضمن في تضاعيفها سؤالاً آخر: هل لايزال من الممكن بعد تطوير النظام مع بقاء الثلاثي “بشار (رئيس الدولة)- ماهر (شقيق بشار وقائد الفرقة الرابعة في الجيش)- آصف (شوكت، زوج أخت بشار ونائب رئيس الأركان)” في السلطة، أم أن بقاء النظام نفسه بات يتطلب تغيير الطاقم الحاكم برمته؟

خلاصات جلسة الحوار في بيروت التي أشرنا إليها في البداية، تشي بأن “حلاً روسياً – أمريكياً” من هذا النوع وارد بقوة. لكن، في حال انضم هذا السيناريو إلى أخواته من السيناريوهات السابقة المُجهضة، فسيتواصل الفرز الطائفي- العشائري الراهن، وسيُعاد تدويل الأزمة السورية مجدداً، لكن هذه المرة على إيقاع طبول الحرب الأهلية.


تعليقات

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *