لا بد من وقف إعلام الدم والتحريض، إذا كان يراد للأزمة السورية الراهنة أن تحل في أجواء من العقلانية والتوافق والسلام، وكانت هناك رغبة جدية في بلوغ حال من العدالة والحرية ترضي المواطنين ليس هناك ما هو أكثر قبحاً من أن يكون المرء عدو نفسه . ومن عداوة المرء لنفسه
أن يقدمها بصورة منفرة تقنع الآخرين بأنها مريضة وفاسدة ومقيتة، وأن خير سلوك حيالها يكمن في تحاشي أي نوع من التعامل معها .
وتتجسم الصورة الأكثر تمثيلاً للسلطة في إعلامها: في ما تقوله فيعبر عن فهمها لنفسها وللغير، وعن نظرتها إلى العالم، سواء عندما تصف واقعه أو تتلمس بدائل كلية أو جزئية له . ليس الإعلام، إذاً، مجرد كلام يصدر عن هذه الجهة أو تلك، بل هو أكثر من ذلك بكثير:
إنه الصورة المكتوبة أو المنطوقة أو المرئية كما تعكس الواقع كما يراه من يقفون وراء الإعلام، فهي، إذاً، الواقع وقد تجسد في مقولات وجملاً قد تكون مبسطة، لأنها تترجم أفكاراً لا تصلح كمادة إعلامية مباشرة، بما أنها على درجة من التعقيد أو التجريد تجعلها خاصة بنخبة أو موجهة إلى نخبة،
غير أن هذا لا يلغي طابعها ووظيفتها كإطار عام تتم بمعونته قراءة مجريات وتطورات ومتغيرات ووقائع معينة، يقدمها الإعلام بلغة مفهومة تفك أقفال المخزون المعرفي والشعوري لمن يتلقاه، وتتفاعل معه بصورة مؤثرة، لذلك يجب أن تكون متفقة مع ميوله أو مسلماته كي تصير مقبولة لديه، وأن تخاطب عنده حساسيات شعورية ومضامين عقلية متنوعة، تغنيها أو تبطل أجزاء منها وتحل أجزاء أخرى، غالباً ما تكون جديدة، محلها، في عملية لا تتوقف .
عندما لا يكون للإعلام إطار فكري مضمر، أو يكون إعلاماً مبنياً على تسطيح وتقويض الوعي، فإنه ينحط إلى مجرد تهييج وتحريض، ولا يكون إعلاماً بأي معنى توضيحي/ تنويري كذلك الذي يقال عنه: إنه تاريخ الأيام، تاريخ أحداث كل يوم . عندئذ، فإنه لا يلقى القبول إلا لدى الجهلة والأغبياء الذين يقبلون التهييج والتحريض ويعيشون شعورياً عليه، .
هذا الإعلام لا يخلو فقط من إطار فكري، يحتويه كي يجعل منه إعلاماً، بل هو يخلو كذلك من أي إطار إنساني، لذلك تراه يتكون من جملة متصلة من صرخات مسعورة تدعو مستمعها أو مشاهدها إلى أن يكون مستعداً لإبادة كل شخص وشيء، من دون مراعاة أي اعتبار أخلاقي أو قانوني أو إنساني، أو أية قيود تفرضها على علاقات البشر مشتركات الحياة وقيم الأديان ومثل الخلق القويم،
فالدعوة موجهة هنا إلى قيم مثلها الأعلى أن تكون قاتلاً كي لا تكون قتيلاً، وأن تسبق غيرك إلى السكين، حتى لا يسبقك إلى المسدس أو الصاروخ، وأن تبتسم باعتزاز بعد الإجهاز عليه، كي لا يطلق ضحكات مجلجلة بعد شرب دمك .
في الإعلام: من لا يوجهه الفكر، ولا يلتزم بقيم أخلاقية ودينية أو بقوانين وضعية، لا يحترم الواقع ويعتبره مادة يتلاعب بها، ومن خلالها بمشاعر وغرائز البشر . فهو لا يتوجه إلى العقول خشية أن ينبذ مخزونها المعرفي طابعه الشعوري/ الانفعالي، وإنما تراه يستخدم لغة غير عقلية أو عقلانية، تقتل أية محاكمة منطقية، وتفي أي مضمون للكلام قابل للفحص في ضوء التجربة أو يتفق مع أية خبرة معرفية مختزنة في نفوس متلقيه، فهي لغة مبالغة وافتعال وانفعال، تقسم العالم إلى مكانين: واحد للخير المطلق هو مكان من تدافع عنهم، الذي تريد تسويقه عند من تسعى إلى السيطرة على أقوالهم وأفعالهم، ومكان للشر المطلق يسكنه من تعاديهم أو تريد تشويه صورتهم .
لهذا، يقوم فنها كله على التقاط مفردات خاصة، يشوهها التضخيم أو التقزيم، من واقع مفبرك هو واقعها الخاص، تريد إقناع المتلقي بأنه واقعه أيضاً، رغم أن هذا لا يؤمن بوجوده، لأنه لا يرى علاماته أو مفرداته في وجوده، ولا يلمس له أثراً في حياته، المادية والروحية .
هذا المتلقي، الذي يكوّن قسماً كبيراً من جمهور وسائل الإعلام، يتحاشاه إعلام الدم والتهييج، ولا يتوجه إليه بخطابه، بل يسعى إلى تحقيره وتأليب “جمهوره” الخاص عليه، بتصنيفه في خانة سلبية وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً، وإلصاق صفات شنيعة به تجعل التخلص منه واجباً من الضروري أن يتصدى له كل “مواطن شريف”، وإلا ازدادت خطورته وقوض الحياة العامة والخاصة بكل واحد من أبناء الشعب .
في الآونة الأخيرة، كان الدم يقطر من كلمات هذا الإعلام، ومن أشداق محطاته التلفازية والإذاعية، وكان جهد العاملين فيه، وجهد من يقف وراءهم، يتركز على فبركة واقع لا يمت إلى واقع سوريا بصلة، ينقسم السوريون فيه إلى أقلية مضللة مجرمة وقاتلة لا بد من تصفيتها، وأغلبية مخلصة طيبة قدر ما هي بريئة، من الضروري إنقاذها، بسفك دماء الأقلية المجرمة .
هذا الواقع المصطنع والوهمي تترتب عليه نتائج عملية على قدر استثنائي من الخطورة، أقله لأنه يدعو السوريين إلى قتل بعضهم بعضاً باسم قيم دينية ووطنية وأخلاقية تحرم القتل، لو كان هذا الإعلام يراعي الواقع الحقيقي ولو من بعيد، لألقى نظرة فاحصة على المجتمع والدولة وأحوال المواطنات والمواطنين، ولأحجم عن الدعوة إلى قتل المظلومين المطالبين بحقوقهم من هؤلاء، ولساندهم ودعم مطالبهم، ولقال فيهم كلاماً جميلاً، بما أن مطالبهم شرعية باعتراف القيادات السياسية، التي يفترض بهذا النمط من الإعلام تأييدها، ودعم مواقفها .
لكنه لا يؤيدها وإنما يعاكسها ويحرض ضد أي مطالب بأي حق مهما كان شرعياً، ويلحق القائلين بتحقيقه بالفتنة ورموزها ومسلحيها، الذين يتحدث ليلاً نهاراً عنهم، لكنه لا يقدم أي دليل ملموس على وجودهم .
لا بد من وقف إعلام الدم والتحريض، إذا كان يراد للأزمة السورية الراهنة أن تحل في أجواء من العقلانية والتوافق والسلام، وكانت هناك رغبة جدية في بلوغ حال من العدالة والحرية ترضي المواطنين .
ولا بد من توحيد خطاب الإعلام مع رغبات الناس ومطالبهم المشروعة، وإلا أسهم بدوره في تكسير المجتمع وتقويض الدولة، وكان داعية عنف، وجانب وظيفته كساحة تواصل وتفاعل بين من يجب أن يزودهم بما يكفي من مواد أولية تعينهم على ممارسة حريتهم في النظر والعمل، ليصيروا بالقول والفعل مواطنين أحراراً، وحملة للشأن العام وللسلامة العامة .
في خضم البلبلة السائدة اليوم في سوريا، يزيد هذا النمط من الإعلام الدموي مشكلاتنا تعقيداً بدل أن يساعد على حلها . ويصير هو نفسه مشكلة يعني التصدي لها بدء الحل الفعلي للأزمة الخطرة، التي نواجهها .