هناك سؤال خاطىء معلن او مضمر في الثورة السورية، اسمه الموقف المسيحي. وسبب السؤال ناجم عن اجتماع خطأين:
الأول هو مقارنة موقف المسيحيين بمواقف جماعة الاخوان المسلمين. الاخوان المسلمون في سورية كما في مصر لم يطلقوا الثورة، لكنهم انحازوا اليها، رغم وجود علامات تشكك بانحيازهم المتأخر في مصر، وادائهم الحالي الذي يثير علامات الاستفهام. خطأ هذه المقارنة هو ان لا وجود لحركة اخوان مسيحيين كي تقارن بحزب الاخوان المسلمين، الذين يرفضون ان يتسموا حزبا ويفضلون المعنى الغائم الذي تتضمنه كلمة الجماعة. حتى الاحزاب المسيحية اللبنانية ليست دينية بالمعنى اللاهوتي، بل هي طائفية، وفي هذا ما يدفع البعض الى التشكيك في مسيحيتها. اما التجربة الــبائسة خلال الحرب الأهلية اللبنيانية التي اطلق عليها اسم المسيحيين الوطنيين، فلم تكن سوى بضاعة طائفية مسمومة اوحت بأن المسيحيين عملاء او خونة بشكل عام، ما عدا الفئة الناجية منهم التي اطلقت على نفسها صفة الوطنية. وكان تشكيل هذه المجموعة السياسية اعلانا صارخا باستسلام العلمانيين امام الخطاب الطائفي.
الثاني هو الاستناد الى كلام صادر عن بطاركة المسيحيين. والواقع ان مراكز جميع بطاركة انطاكية )سورية ولبنان( تقع في دمشق، ما عدا البطريرك الماروني، وهذا يفسر انصياعهم للضغوط التي يمارسها النظام الاستبدادي في سورية. اما البطريرك الماروني، فهو يحمل الى جانب صفته الدينية صفة سياسية واضحة، بعدما ‘اعطي مجد لبنان’، كما تقول العبارة الشهيرة. وهو يعبر في مواقفه عن انهيار النصاب السياسي الماروني في لبنان، بعد الكوارث التي صنعها زعماء الطائفة السياسيين عبر خياراتهم السياسية وتحالفاتهم الخارجية الوهمية، ورقصة الموت التي صنعوها عبر التحالف مع النظام الأسدي في سورية، قبل الانزلاق الى هاوية التحالف المميت مع اسرائيل.
(هذا لا يعني ان الطوائف اللبنانية الاخرى افضل، فالبنية السياسية الطائفية محكومة بالعمالة للخارج، وحين تفقد الدعم الخارجي تضعف وتتشرذم).
بالطبع شكلت مواقف البطريرك الماروني بشارة الراعي صدمة للجميع، لكنها تبقى اقل استفزازية من مواقف الجنرال عون المنبطحة تأييدا للنظام السوري. علما ان الجنرال المذكور جرى تبييضه من قبل آل الأسد كي يكون البطريرك السياسي للمسيحيين في بلاد الشام.
الى جانب هذه التصريحات جاءت مواقف بعض البطاركة والمطارنة الأخيرة لتصب في ترسيمة اشارت الى تحالف الأقليات في بلاد الشام ضد الأكثرية الاسلامية السنية.
اعتقد هنا ان هناك الكثير من التضخيم وسوء النية في قراءة هذه المواقف. فباستثناء الموقف المخجل الذي اتخذه البطريرك الماروني، فان مواقف القادة الروحيين المسيحيين الآخرين في سورية ليست اكثر سوءا من مواقف مفتي سورية السني، الذي تمادى في دعمه للجريمة التي يرتكبها النظام. وهذا عائد بالطبع الى ان آلة القمع الاستخباراتي وضعت القيادات الدينية في موقف لا تحسد عليه، وجعلتها في النهاية جزءا من آلة السلطة.
لكن في المقابل هناك فراغ سياسي وثقافي صنعته الديكتاتورية بشكل جعل الثورة العفوية التي انطلقت في سورية عاجزة عن بناء نصاب سياسي حقيقي يضم جميع مكونات الشعب، ويطمئن الخائفين، وسط موجة التخويف التي صنعتها آلة النظام، وشارك في صنعها بعض القوى التكفيرية التي كانت الى امد قريب حليفته في الكثير من الاماكن، من عراق ‘القاعدة’ الى لبنان ‘فتح الاسلام’.
ولعل الكذبة الكبرى التي صنعت جدران الخوف هي ان النظام السوري هو نظام علوي يحمي الطائفة العلوية. والصحيح ان هذا النظام المافيوي متعدد الطوائف، لكنه يحتمي بالعلويين، ويريد ان يجعل منهم وقودا في صراعه المستميت للبقاء في السلطة.
لكن الغريب هو انجرار بعض الأصوات العلمانية الى خطاب الخوف والتخويف، عبر تقديم تفسير مؤامراتي لتاريخ الحركة الوطنية العربية. فتصبح العروبة اختراعا مسيحيا وتصير العلمانية هربا من الدولة الاسلامية، وتصير الفكرة القومية نوستالجيا بيزنطية! على ما زعم حازم صاغية في مقاله ‘مسيحيون ضد السنة’، (الحياة 8 نيسان/ابريل 2012).
هذا الخطاب يتبنى، من دون ان يدري ربما، الفكر الأصولي الذي رأى في الحركة الوطنية العربية مؤامرة صنعتها الأقليات ضد الدولة العثمانية، اذ تكفي الاشارة الى بعض الاسماء المسيحية في المرحلة القومية التأسيسية كي يتم وسم هذه الحركة بالمؤامرة. كأن مصطفى كمال كان نصرانيا او يهوديا كما يدعي بعض الغلاة، وكأن عبدالناصر ينتمي الى الأقليات. مجرد اسقاطات لا تستطيع ان ترى معنى استقلالية المستوى الفكري الثقافي، والدلالات الايجابية لانخراط جزء كبير من النخب المنتمية الى الاقليات الدينية في الحركة القومية كاشارة الى الانعتاق والتحرر، وبحثا عن قيم فكرية جديدة تنتمي الى الزمن الحديث.
هذا الفكر المؤامراتي يصب في النهاية في افتراض حتمية تأييد الأقليات للديكتاتور خوفا من الأكثرية. وهو افتراض مدمّر ليس للأقليات فقط، بل للوجود الوطني بأسره.
ولكن اين المشكلة؟
هل يجب ان نصدّق بشارة الراعي وامثاله، ام يجب ان ندفع في اتجاه بناء وحدة وطنية جديدة اساسها المواطنة، ومشروعها هو الخلاص من الديكتاتورية، رغم ان ثمن هذا الخلاص سوف يكون العودة الى الأسئلة الأولى التي حنطها الاستبداد؟
صحيح ان الثورة السورية مرت وسوف تمر في لحظات صعبة، وصحيح ايضا ان هناك ممارسات خاطئة من قبل رجال الثورة، لكن الصحيح ايضا ان الثورة تستعيد حق الناس في صناعة حياتهم، وتفتح باب الحرية.
الاستبداد صار من الماضي حتى لو نجح في اطالة عمره قليلا عبر المزيد من القتل، ومن خلال المناورات والكـــذب. وسؤال المستقبل في سورية هو سؤال الديموقراطية والحرية بعد اربعة عقود من الاستبداد، وهو ليس سؤالا اقلويا انه سؤال وطني على الجميع المشاركة في الاجابة عليه.