الكواكبي وفكرة المرجعية العربية للدولة.
إن إحدى الإشكاليات المثيرة للعقل والضمير العربي تكمن في انعدام فكرة المرجعية العربية بوصفها مرجعية ما فوق سياسية وما فوق عقائدية وما فوق أيديولوجية. بمعنى بقاء هذه المرجعية ما وراء الصراع السياسي والعقائدي والأيديولوجي بوصفها بوصلة الرؤية العملية. على حين كشفت أحداث الثورة العربية عن أنها لم تتحول في كل مكان إلى مرجعية جوهرية للرؤية السياسية والعملية. وقد تكون التجربة العراقية والليبية من بين أكثرها بروزاً. وإذا كانت من حيث طابعها الدموي ونتائجها التخريبية الهائلة هي الوجه العملي لزمن الانحطاط السياسي وخلل البنية الاجتماعية والوطنية والقومية بأثر هيمنة دكتاتوريات فجة ومتخلفة، فإن محاولة تكرارها في سورية مؤشر على خراب الرؤية العملية والسياسية والمستقبلية والقومية للمعارضة أولاً وقبل كل شيء. بمعنى أن محاولة استقدام الأجنبي من أجل «حل المشكلة الوطنية» و«القضية السورية» و«النظام الديمقراطي» و«الشرعية» هو خروج شامل على مرجعية الفكرة العربية وأولويتها بالنسبة لحل الإشكاليات العالقة والمأساوية أحياناً للدولة والأمة.
أربعة أسباب كبرى للخلل البنيوي
إن هناك أربعة أسباب كبرى لهذا الخراب أو الخلل البنيوي القائم في هذه الرؤية والمواقف وهي:
1- تعارضها مع تاريخ وعي الذات الوطني والقومي العربي في سورية.
2- تجاهلها لما يمكن دعوته بالحقيقة السورية بوصفها حقيقة قومية عربية كبرى هي أوسع وأعمق وأكثر جذرية من السلطة والنظام السياسي.
3- عدم جعلها الفكرة العربية القومية مرجعية كبرى ومتسامية.
4- عجزها عن تحويلها إلى بديهية سياسية.
وقد ترتب على ذلك أربع نتائج وخيمة لعل أكثرها تخريبا هي:
1- أنها لم تستفد من تجارب التدخل الأجنبي وآثاره المدمرة كما هو الحال بالنسبة للعراق وليبيا. الأمر الذي يشير إما إلى أنها عمياء العقل أو القلب أو الضمير أو جميعها.
2- أنها لم تتبع النموذج الأمثل للصراع السياسي السلمي من أجل الإصلاح كما جرى في تونس ومصر واليمن.
3- أنها تصارع من أجل الانقلاب وليس الإصلاح.
4- أنها تصارع من أجل السلطة وليس من أجل الدولة والأمة.
ووجد ذلك انعكاسه العملي في انتهاك فكرة المرجعية العربية كما بلورها تاريخ سورية الحديث أولاً وقبل كل شيء. أما الغلاف الخليجي أو دويلات الجزيرة شبه العربية فهو مجرد غطاء مثقوب ومهزلة «للحل العربي». أما الأسئلة الكبرى التي تظهر هنا فهي التالية: لماذا يظهر بعد قرن من زمن المعاناة الصعبة والمعقدة للصيرورة العربية من يتجاهل مآثرها ورذائلها لكي يرميها من جديد في أحضان الغرباء؟ ولماذا تندفع «نخبة» المعارضة من ديمقراطية وعقلانية وإسلامية إلى الانغماس في أحضان قوى ليست عقلانية ولا ديمقراطية ولا قومية عربية ولا إسلامية؟ ولماذا تظهر معارضة لا مرجعية كبرى فيها لغير الغرباء من دويلات المال والرشوة ودول الاستعمار القديم والكولونياليات الحديثة؟
الخروج على منطق
التاريخ القومي وتجاربه
إن الإجابة العامة والمباشرة على هذه الأسئلة جميعاً تقوم فيما يمكن دعوته بالخروج على منطق التاريخ القومي بشكل عام وتجاربه النظرية والعملية بشكل خاص. وليس مصادفة أن تشترك وتجمع كافة الشخصيات الكبرى للفكرة الوطنية والقومية العربية في سورية على أولوية وجوهرية المرجعية العربية. وليس تناول شخصية الكواكبي في هذا المقال هو للتعبير عن أوليته ونموذجيته بهذا الصدد، بوصفه أحد المؤسسين الأوائل لفكرة الدولة العربية ومرجعيتها الذاتية. وهذه بدورها لم تكن نتاج رغبة طارئة أو مزاج ثوري أو وجدان سوري خاص أو نزعة أيديولوجية صرف، بقدر ما كانت تنبع من معاناة اجتماعية وسياسية وثقافية كبرى. بمعنى أنها كانت تستند إلى إدراك عقلي عميق لتاريخ الكينونة العربية ومصيرها في ظل خضوعها للآخر أياً كان هذا الآخر. وهي حقيقة تاريخية تحولت إلى بديهية سياسية في العالم والعلم المعاصرين.
وليس مصادفة أن نرى الكواكبي ينظر حتى إلى تقهقر الإسلام وتكلسه في نظام الاستبداد على أنه النتيجة الملازمة لتحلل وزوال البؤرة العربية في الخلافة. وإذا كانت هذه الصياغة لا تتضمن بحد ذاتها ولا تتطابق بالضرورة مع مضمون النزعة القومية، فإنها مهدت مع ذلك في آرائه للفكرة القائلة بضرورة الإصلاح المعقول، باعتباره طريقا لبلوغ الاستقلال. فقد توصل الكواكبي إلى استنتاج مفاده بأن السيطرة التركية قد فقدت مبرر وجودها الإسلامي والثقافي، وتصيرها اللاحق في كيان استبدادي سياسي وقومي. من هنا فكرته عن دور العرب التاريخي في الإسلام.
فقد كان التأسيس النظري لمكانة الوجود العربي بوصفه بؤرة جوهرية في التاريخ الإسلامي هو الصيغة السياسية والثقافية لضرورة الاستقلال القومي. لهذا لم يكن معنى التبجيل المثالي لعرب الجزيرة سوى التشبث بمثالية الاستقلال وضرورته. إذ لم يكن تحديد الكواكبي لـ«خلاصة العرب» في الجزيرة سوى ما يتطابق في ذهنه ومشاعره وحوافز نزوعه السياسي مع الكينونة المستقلة للعرب. وحالما يجري توضيح المعنى الكامن في هذه الفكرة على مثال التاريخ الواقعي، فإنه يجد في رقيه الثقافي تحقيقا عملياً لها. وكتب الكواكبي بهذا الصدد يقول: إن التطور الثقافي لعالم الإسلام قد جرى في المراحل التي تعربت فيها الأقوام الإسلامية «مثل استعراب البويه والسلاجقة والأيوبيين والغوريين والجراكسة وآل محمد علي باشا». ووجد في هذه الظاهرة تأكيداً تاريخياً عما سماه بقيمة العربية الثقافية وليست العرقية في عالم الإسلام، وقيمة القومية الثقافية بالنسبة لوعي الذات السياسي. ما يعني ضرورة هذه العربية الدائمة بالنسبة للنهضة الإسلامية والقومية.
لهذا وضع العرب في خطته العامة عن الاتحاد والعمل الإسلامي المشترك في موقع «الروح» الفاعل في جسد الأمة (الإسلامية). وأعطى للأتراك العثمانيين مهمة حفظ الحياة السياسية الخارجية، وللمصريين حفظ الحياة المدنية، وللأفغان والترك والخزر والقوقاز ومراكش وإمارات إفريقية مهمة الجندية، ولإيران وأواسط آسيا والهند حفظ الحياة العلمية والاقتصادية. وإذا كانت هذه الصيغة التخطيطية الصارمة والطوباوية أيضاً (مع أنها تتضمن ما يمكن دعوته بتقسيم العمل) تشير من الناحية الظاهرية إلى البقاء ضمن اطر الجمعية الإسلامية، فإن مضمونها الفعلي يسير باتجاه رابطة أممية من طراز حديث ينفي تاريخ وواقع السيطرة التركية العثمانية بوصفها تخريباً لمعنى الكل الإسلامي القومي والثقافي.
في مواجهة اشكاليات
الحياة الكبرى للدولة والأمة
ومهما يكن من أمر هذا الاستنتاج النظري في المسار التاريخي المعقد للصيرورة العربية ما بعد الخروج من الهيمنة العثمانية والاحتلال الأوروبي الكولونيالي والتجزئة، إلا أنه يبقى سليماً من حيث تأسيسه وغايته. بمعنى ضرورة الاستقلال القومي فيما يتعلق بالمساهمة الفعلية لبناء النفس والكل الإسلامي. وفيما لو جرى تطبيق هذه النتيجة على الحالة العربية بشكل عام والسورية بشكل خاص، فإن مضمونها يقوم في ضرورة الاستقلال السياسي وأولوية الإرادة الوطنية والقومية في مواجهة إشكاليات الحياة الكبرى للدولة والأمة.
فالتطور والتطوير الفعلي للدولة والأمة يستلزم السير إلى الأمام بمعايير الواقعية والعقلانية والفكرة المستقبلية. وهذه بدورها تفترض وجود حدودها القومية الجلية. إذ ما لم تتكامل القومية في كيان وكينونة مستقلة وديناميكية لا يمكنها حل أي إشكالية كبرى أمام تطورها الحر. وتاريخ العرب في ظل السيطرة العثمانية دليل على ما أدت إليه، أي صفر الوجود القومي والثقافي. من هنا يمكن فهم قيمة الحدس الكبير والهائل لفكرة الكواكبي وكذلك قيمتها الحالية بالنسبة لمعارضة سورية بأعلام عثمانية!
إن المهمة تقوم في ضرورة التفريق بين عثمانية خربة وتركية حديثة وأردوغانية سياسية. وجميعها حلقات أو مكونات لتجربة تركية قومية لا علاقة جوهرية لها بالمستقبل العربي إلا بالقدر الذي يتعلق بما أسميه بإستراتيجية المثلث العربي الإيراني التركي، أي المشروع المستقبلي للتكامل على أساس مستقبلية. وهذه قضية أخرى.
إن العالم العربي، وفي الحالة المعنية سورية (والعراق) بوصفهما المكون العربي لهذا المثلث يمر بحالة متشابهة من حيث طبيعة وآفاق الصراع التاريخي المتعلق بكيفية حل إشكالية الدولة والقومية، أي إشكالية النظام السياسي والمجتمع. وما لم يجر حلها بطريقة تستند إلى فكرة المرجعية العربية، بوصفها بديهية سياسية في كل المواقف، فإن كل «الاجتهادات» الأخرى تبقى مجرد أوهام مدمرة!
موسكو- ميثم الجنابي
أكاديمي عراقي
http://www.alwatan.sy/dindex.php?idn=120106