شيطنة العلمانية!
حملة ترويجية لفوز الحركات الإسلامية في “الخريف العربي”! رياض متقلون– نقلا عن موقع جهينة نيوز.
إن الحديث المستجد مؤخرا والمتكرر في كل مفصل تاريخي جديد تمر به البلاد العربية عن فشل المشروع القومي والعلماني في هذه البلاد العربية في مواجهة المشاكل والقضايا العربية المستعصية ينطوي على مغالطة فكرية سياسية تاريخية كما أنه مبني على أسس واهية من الفهم لواقع وطبيعة هذه المشاكل والقضايا والرؤى الممكنة واقعيا والتي يمكن السير فيها لمعالجتها.
إنه، أي هذا الفشل، يتجلى في كافة البنى المجتمعات العربية قاطبة لو جاء على يد الإسلاميين “الثيوقراطيين” لكان ربما أخطر وأكبر بكثير وهو ليس نابعا من كون الأنظمة علمانية أم دينية بل لأن الظروف الموضوعية المحلية للبلاد العربية من بنية اجتماعية متخلفة ناجمة عن دهور من الاستعمار التركي- الذي حكم البلاد العربية بحجج دينية – و ناجمة أيضا عن الحروب الكبرى التي دارت رحاها في المنطقة العربية وكذلك عن بنية اقتصادية متهالكة مع تحديات عسكرية داخلية وخارجية دولية أفشلت مثلا مشروع محمد علي باشا النهضوي في مصر (في حين نجح مشروع مماثل ومتزامن في اليابان) و مساهمة الغرب عبر “سيكس بيكو” و “وعد بلفور” ثم أمريكا الدولة العظمى الصاعدة على المسرح الدولي في زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي ودعمها دون حدود لإحباط أي تطور ممكن أن يتحقق كل ذلك شكل ظروفا موضوعية غير مواتية لنجاح أي نظام إن كان علمانيا أم دينيا إن كان قوميا عربيا أم إسلامويا أمميا. إذا قلنا أن الأنظمة السياسية في سورية والعراق ومصر مثلا فشلت لأنها تبنت نظما علمانية في مراحل معينة من تاريخها فهل نستطيع القول أن الأنظمة غير العلمانية في السعودية والخليج والمغرب والأردن نجحت ؟ ( لاحظ أن هذه الدول الغير علمانية تصنف ضمن ما يسمى “محور الاعتدال العربي” الدائرة في فلك أمريكا والغرب).
الحقيقة أن الإجابة الكاملة عن فشل كل مشاريع “الدولة” في البلاد العربية علمانية كانت أم غير علمانية جديرة بأبحاث تغطي كتبا كاملة ولكني ومن باب معالجة سريعة لحملة من الأسئلة التي تثار هذه الأيام وتحديدا عما يسمى “فشل المشروع العلماني” في مقابل صعود الحركات الدينية في البلاد العربية أقول من باب تقيم موضوعي للأمر أني لا أستبعد أن هذه الأسئلة من نوع ما طرحه كتاب مقالات هذه الفترة في تناول وصول الإسلاميين للسلطة في بعض الدول العربية أن لا يخرج عن نطاق ما يمكن أن يكون “حملة ” وأقول ربما ” حملة منسقة مشبوهة” تطبل وتزمر للإسلاميين لغاية في نفس يعقوب تخدم أنظمة “الرجعية” العربية ذات العمالة للغرب وهدفها أن تعمي الأبصار عن حقيقة الأمر وتخلق وهما مفاده أن “ أن الديمقراطية يمكن لها أن تنشأ وتترعرع بطريقة طبيعية وصحية في جو ثيوقراطي ديني.“(*). إن مشروعا يراد به النهوض بواقع البلاد العربية ديمقراطيا نحو الحرية و التنمية والتحرير يجب أن يكون مشروعا متكاملا يشمل كل أطياف المجتمع ويكون كل فرد فيه هو “مواطن ضمن دولة” مشارك فيه معني به منطلقا ووسيلة وهدفا فإذا كان دينيا فإنه سوف يحمل بنية مذهبية ما أو حتى طائفية تجعل من لا ينتمي مذهبيا وطائفيا له بمثابة مجرد فرد لا “مواطن” وقد يكون من درجة ثانية مستبعدة بنيويا من معايشة المشروع والمشاركة به. فمثلا لو أن نظاما “أخو نجيا” نشأ في سورية مثلا– لا سمح الله- لكان قد شمل تغطية سياسية لأفرادا من طائفة معينة من دين معين وجعل الأفراد المجتمع السوري الآخرين أم “ذميين” أو مواطنين من درجة ثانية – أو درجة أخرى على الأقل – وقد يشرك فيها شكليا أفراد من خارج “الأخونجية” في ممارسة السلطة من باب ذر الرماد في العيون والواجهة التي تعمي الأبصار عن طائفية ومذهبية هكذا سلطة؛ أي على غرار ما هو معمول به في معظم “الأحزاب” اللبنانية التي يكون كل حزب ممثلا لطائفة ما ولكن يستوظف في هذا الحزب أفراد من طوائف أخرى بهدف نفي الصفة الطائفية عن الحزب ولو ظاهريا!!
إن محاولة دول عربية خليجية ودول منضوية ضمن الدول الغير علمانية (أو ما يسمى دول الاعتدال كقطر والسعودية والأردن) لتقوية نفوذ الحركات الدينية والسلفية يستدعي النهوض للتصدي لمحاولة إرجاع عقارب الساعة الى الوراء وربما علينا أن نعي أن الأحداث الأخيرة في منطقتنا وخاصة فيما يسمى “الربيع العربي” تستدعي أن نحي ربما من جديد المعين اللغوي والفكري السياسي الذي تخلينا عنه لبضعة عقود تخللتها محاولات فاشلة لحل القضايا العربية مع أمريكا وإسرائيل عبر المفاوضات “السلمية” والمبادرات العقيمة (كمبادرة العربية المذلة التي قدمها مؤتمر القمة العربية في بيروت لإسرائيل والتي لم تأبه إسرائيل به بل ضرت وجوه العرب بهذه المبادرة عبر تصعيد عسكري إجرامي ضد الفلسطينيين) وربما علينا أن نحي قوام الفكر الذي لم يخطئ في رؤية البلاد العربية ضمن منظور تقدمي مستقل (سورية) أو غير تقدمي وغير مستقل (محور “الاعتدال” العربي) وكذلك إعادة إحياء من جديد مصطلحات من نوع: أنظمة “الرجعية” العربية وأخرى تقدمية وغيرها تماما كما يجري دوليا على ما يبدو من إحياء أجواء الحرب الباردة الآخذة في التشكل على خشبة المسرح السياسة الدولية بين روسيا والصين من جانب وأمريكا والغرب من جانب آخر.
وتجدر الإشارة هنا الى نقطتين الأولى أن مسحا للتعليقات الواردة الكترونيا في أسفل المقالات المكتوبة والمنشورة على مواقع الانترنيت من قبل مثلا عبد الباري عطوان الصحفي الخاص والمتخصص بإمام المسلمين “أسامة ابن لادن” و”قاعدته” ثم تبعه علي سالم (صاحب مشروع التطبيع مع إسرائيل) والسيد عباس بيضون (**) وكذلك انضم إليهم مؤخرا الصحفي الأردني الفذ السيد عريب الرنتاوي صحفي محور الاعتدال العربي وحكام الأردن تدل بوضوح على جهل فكري مريع مستشري بين عامة الشعوب العربية في الخلط بين العلمانية والكفر وهذا خطير جدا إذ أن الفروق شاسعة بينهما ولكن بعض رجال الدين في بلادنا وبعض المستكتبين الجدد يخلطون بين الأمرين عن سابق إصرار وترصد بقصد بقاء هذا الجهل والتجهيل بحيث تظهر الى الغالبية العظمى من الأميين العرب (وهم السواد الأعظم من العرب والتي تشير الإحصاءات أنهم يقرؤون ربع صفحة في السنة مقارنة بالأوربي الذي يقرأ ما بين كتابين الى ثلاثة كتب شهريا ) أنها كما كانت المعركة سابقا بين الشيوعية والرأسمالية فإنها وبعد اندحار الشيوعية الآن أصبحت بين العلمانية والإيمان وكأن العلمانية هي إلحاد وكأن الرأسمالية كانت يوما “إيمانا”. كنت دائما أسأل طلابي في الجامعة عن طبيعة النظام في كل من تركيا و فرنسا التي تمنع القوانين فيهما حمل الرموز الدينية أو لباس غطاء الرأس للمرأة في المؤسسات التعليمية فيهما فكانت الإجابات تقول “علمانية” فكنت أقول “خطأ” لأن العلمانية لا تجبر أحدا على لباس أو حمل رمز ديني كما لا تجبر أحدا على عدم حمل أو لبس رمزا دينيا فإذا قام نظام ما بذلك فهذا ليس نظاما علمانيا أبدا بل هو مضاد تماما ومعاكس للعلمانية التي تقوم في جوهرها على تحييد واحترام الدولة اتجاه المعتقدات الدينية لمواطنيها !!!
والنقطة الثانية أن القول أن صندوق الاقتراع هو الحكم بين الحركات الدينية والعلمانية هو حق يراد به باطل ذلك أن الصندوق يصبح فعلا هو الحكم لما يصبح المقترع حرا ولا يدخل في قراره الحر في الاقتراع رجل يلتحي أو رجل يدعمه رجل ملتحي أي لما يصبح صوته منحازا فقط لمن يعمل بحرية لمصلحة الإنسان ومعياره الوحيد هو الإنسان فوق كل اعتبار وليس معياره فتوى “شرعية” وليس طمعا في مغنم أخروي ولا خوفا من عقاب دنيوي ينزل عليه من السماء أو عقاب أخروي يلقاه يوم الآخرة. لقد بدأت الديمقراطية في أثنيا اليونانية عندما أصبح الإله إنسانا وصارت درجات المعابد تبنى بحجم خطوة وقدم الإنسان في حين أن معابد الشرق الفرعوني والبابلي والآرامي السوري (أي ما قبل ظهور المسيحية السورية) كانت بحجم كبير جدا تتناسب مع الاعتقاد أن الإله هو فوق الإنسان وكل شيء يقاس به وليس بالإنسان وعندئذ يصبح كل شيء قدريا و تستبعد الإرادة الإنسانية في الفعل.
ولا بد من الإشارة أن على العقل العربي أو السوري أن يستفيد من التراكم المعرفي الإنساني بمعنى أن تصنيع السيارة مثلا يجب أن لا يبدأ من اكتشاف النار وعقاب الآلهة لبرومويثيوس (*3) لسرقته للنار وإعطائه هذه النار للإنسان بل علينا أن نعمل العقل بحيث نتجنب خوض سفك الدماء الذي شهدته أوربة خلال القرون الوسطى حتى القرن العشرين حتى وصلوا الى قناعة حتمية بضرورة فصل الدين عن الدولة بمقتضى العلمانية وأن هذا الفصل ليس كفرا بل انتصارا للإنسان الذي هو الهدف الأسمى لأي دين وبالتالي يجب علينا أن لا نجرب المجرب (وهم الحركات الإسلاموية) لمدة خمسين سنة لنصل الى ما وصلنا إليه الآن.
كما تجدر الإشارة الى أن بعضا من المقالات هذه الفترة وضمن إستراتيجية التطبيل والتزمير لوصول الحركات الإسلاموية الى سدة السلطة في البلاد العربية تدخل ضمن سياسة “شيطنة” الأنظمة العلمانية ووضع القارئ العربي بين خيارين مفاد الأول منهما أن النظم العلمانية شر مطلق وتعلق عليها كل الموبقات والأخطاء والفشل وحتى التي ورثناها من البنية التاريخية للمجتمع العربي منذ آلاف السنين والثاني مفاده أن الأنظمة الدينية الإسلاموية – وخاصة “الإخونجية” – أقل شرا من العلمانية و كأن لسان حال هذه المقالات يقول للعربي وخاصة السوري أنه “قد يكون النظام الاسلاماوي فيه بعض الشر الذي يمكن أن يجعلك أيها القارئ تعترض عليه ولكن تذكر أنه أقل شيطانية من النظام العلماني.” أي إنها محاولة لإحلال النفس القدري في السياسة بحيث أن خيارا حتميا يقوم على اختيار أقل الشرين – إن كان يعترف أصلا “بشر” أو بإشكاليات النظم الثيوقراطية الغير المنسجمة بنيويا مع مفاهيم وأسس الديمقراطية وأن الخروج عنها ليس كفرا.
ملاحظات إضافية:
(*) أي نظام مشابه لما هو معمول به في إيران أو السعودية مثلا رغم الفرق الشاسع بين نظامي الدولتين، بين نظام مستقل من الناحية الدولية ويحقق انجازات علمية وصناعية كما في إيران وبين نظام قبلي بدوي مستتبع للسياسية الأمريكية ومتخلف في كل شيء من التعليم و حتى تداول السلطة.
(**) رغم أن مقالة السيد عباس بيضون (“الإسلام قادم” ) ورغم بعض الروح النقدية فيها تبدو وكأنها تقول أن قدوم الحركات الدينية قدر لا مهرب منه.
(*3) برومويثيوس: هو شخص أسطوري سرق النار من الإلهة وأعطاها للإنسان وتشكيل هذه الأسطورة اليونانية يمثل رمز اكتشاف الإنسان للصناعة واستخدام النار في تطوير الحياة الإنسانية صناعيا ومعرفيا.
رياض متقلون – مدرس جامعي.