العقل حينما يكذب.


قال: كيف ترى حال العرب اليوم؟ قلت: حالتهم فريدة، وتعاستهم شديدة، وصدمتهم المستقبلية أكثر من أكيدة، فهم الأمة الوحيدة التي حوَّلت ثرواتها الهائلة إلى ما هو أسوأ من الفقر، وقواها الجبارة إلى ما هو أسوأ من الهزيمة.

 قال: أذكر أنك كنت في الأزمنة العادية كاتباً مندفعاً كالنهر متوهجاً كالجمر، فما بالك اليوم تكتب بعقلك، وتتحفظ في عباراتك، كما لو أنك تحصي أنفاس قلبك؟

قلت: في سهل السلام حاولت أن أكون جزءاً من المحرك الذي يدفع العربة إلى الأمام، أما في المنحدر فأنا جزء من المكابح التي تحاول الحفاظ على سلامة العربة إلى أن تتجاوز الخطر.

قال: أين كلمتك التي كانت كالرصاصة؟

قلت: في هذه الأزمنة المضطربة نحن بحاجة لكلمة العقل المضادة للرصاص، والحق أن الأدباء العرب عندما حاولوا جعل الكلمة رصاصة أفسدوا الاثنتين في آن معاً.

قال: موقفك ملتبس، يعني ضربة على الحافر وأخرى على النافر.

قلت: موقفي أوضحته في كلمات شارة مسلسل «الحور العين» التي كتبتها قبل أكثر من سبعة أعوام والتي لحنها الموسيقي القدير شربل روحانا: «إن ما كان فيك تضوِّي شمعة/ لا تشعل حريء/ وإن ما كان فيك تواسي دمعة/ لا تظلم بريء/ ولوه يالإنسان/ يالمكوي بنار الطغيان/ إن ما قلبك وسع الحق/ ما بتوسعه الأكوان».

قال: كيف تنظر إلى مسؤولية المثقف السياسية في هذا الظرف العصيب؟

قلت: أنا رجل فن ولست مثقفاً ولا سياسياً. وأنا معجب بقول ورد في فيلم (خمسة لأجل الانتقام) (V for Vendetta) الذي قام بكتابة السيناريو له الأخوان «واتشوسكي» أصحاب سلسلة أفلام الماتريكس الشهيرة، إذ تقول الفتاة «إيفي» التي لعبت دورها الممثلة الرقيقة «ناتالي بورتمان» إن والدها الكاتب كان يقول: «إن الفنانين يكذبون لقولِ الحقيقة، على في حين يكذب السياسيون لإخفاء الحقيقة».

قال: الكذب يبقى كذباً بغض النظر عن الهدف منه، وهذه المقولة الغربية، لا تتماشى مع ثقافتنا وقيمنا.

قلت: لا تنس أن سلفنا الصالح كان يقول: «أعذب الشعر أكذبه»، وهناك أكاذيب فنية خالدة في تراثنا الإبداعي هدفت إلى قول الحقيقة، لعلَّ أشهرها (كليلة ودمنة) لابن المقفع الذي «كان صالحاً قبل أن يكون مصلحاً» فقد وضع قصصها على ألسنة الحيوانات والطير، وجعلها تقول ما يجب أن يتحلى به الحكَّام في حكمهم وسياسة دولهم، كما جعلها تزيِّن للقارئ التمسك بالقيم السامية ومكارم الأخلاق.

قال: كيف تتوقع أن يكون مستقبل المثقفين الذين اكتسبوا مصداقيتهم من خلال دفاعهم عن قضايا الفقراء، وهم الآن يتنقلون بين العواصم العربية والعالمية، ينزلون في فنادق خمسة نجوم ويتنقلون في المقاعد الخلفية من سيارات الجاغوار والميرسيدس الفخمة؟»

قلت: المستقبل ملك لنفسه، لكن هؤلاء يذكرونني بعبارة وردت في فيلم (العائلة توت) الذي أخرجه السينمائي الهنغاري القدير زولتان فابري عام 1969 عن مسرحية بالعنوان نفسه لمواطنه الكاتب أسطيفان أوركيني، فقد قام فابري بتقسيم فيلمه إلى عدة فصول، تعبيراً عن احترامه لخصوصية النص المسرحي، ووضع لكل فصل عنواناً، ورغم أنني شاهدت الفيلم منذ أكثر من ربع قرن، إلا أنني ما أزال أذكر السؤال الذي وضعه فابري عنواناً لأحد الفصول: «ماذا يحدث للأفعى حينما تبتلع نفسها؟»

لقد فكرت طويلاً في هذا السؤال، وأحسب أن أنسب جواب توصلت إليه هو التالي: حينما تبتلع الأفعى نفسها تصبح كتلة لحم عاجزة، وهذا ما يحدث لعقل المثقف حينما يكذب على نفسه. فقد أصاب ليف تولستوي كبد الحقيقة إذ قال: «ارتكاب الخطيئة عمل إنساني، لكن تسويغها عمل شيطاني».

 نقلا عن جريدة الوطن السورية حسن م. يوسف  

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *