استفتاء لامحل له من الاعراب

فواز طرابلسي:

ينفرد الاستفتاء على الدستور السوري بين الاستفتاءات المعروفة في العالم بأنه جرى في ظل حرب حقيقية يخوضها نظام ضد جزء حيوي من شعبه. لم يخطر في بال النظام ان يعلن هدنة ولو ليوم واحد ليمر التصويت بسلام. ولا سمحت آلته العسكرية لأهالي حمص وسائر «المواقع الحربية» في طول سوريا وعرضها، بدفن موتاهم بكرامة دون إطلاق النار على المشيّعين، ولا تمكن الهلال الاحمر او الصليب الاحمر الدولي من إخلاء الجرحى ونقل المعونات الغذائية والصحية للبلدات والاحياء والمدن والقرى والضواحي المحاصرة والمجوّعة.
كان يوم الاستفتاء يوم حرب «عاديا». تأكيدا على «عاديته»، سجل اليوم الذي تلاه ارتفاعا بات مألوفا في منسوب القتل حين يستغل النظام المناسبات «السياسية» ـ من مثل قبوله الوساطة العربية او موافقته على مجيء المراقبين العرب او بحث قضية سوريا في الامم المتحدة ـ لشن جولة دموية تصعيدية من جولات «الحسم» الذي لا يأتي. تأتي بدلا منه الكارثة اليومية.
تأكد واقع الحال هذا في تصريح للرئيس الاسد يوم الاستفتاء. قال «إنهم اقوياء في الإعلام ولكننا أقوى منهم على الارض». وهو لم يكن يتحدث طبعا عن قوات الاحتلال الاسرائيلي في الجولان. بل يكرر المعادلة الغرائبية إياها عن تغييب السوريين المتظاهرين والمعتصمين والمناضلين ضد نظامه منذ ما يقارب السنة، ومعهم ضحاياهم وجرحاهم ومعتقلوهم والمخطوفون والمختفون منهم، بتحويلهم الى كائنات تلفزيونية إفتراضية تخترعها الفضائيات الخليجية. والرد على «قوة» الإعلام الخليجي هو طبعا القوة المدرعة والمدفعية «على الارض» … السورية.
لا ينفرد الاستفتاء السوري بالأسبقية المذكورة أعلاه فقط. تصعب إقامة الصلة بين التصويت على الدستور في يوم حرب عادي وبين خلاص السوريين من الحرب بأيامها ولياليها.
تراجعت نسبة الموافقين على الدستور. تراجعت عن المعهود في العهد الذهبي للدكتاتوريات السورية والعربية. وبغض النظر عن دقة الارقام، فالمؤكد ان من قصد مراكز الاقتراع وصوت بـ«نعم» لم يصوت لما يحتويه الدستور الجديد من «اصلاحات» بقدر ما صوّّت لما فيه من استمرارية. صوّت خوفا من مجهول. وصوّت اتقاء لقمع. وصوّت حفاظا على وظيفة او مصلحة. وصوّت خشية من الفوضى. وصوّت فزعا من اصوليات وسلفيات. صوّت نصف السوريين حفاظا على الوضع الراهن، اي على نظام سياسي قائم على السلطة شبه المطلقة لحاكم فرد قوي زيدت صلاحياته بدل ان تنقص. هذا ليس بالامر التفصيلي. تناقلت وسائل إعلام عربية نتائج استطلاعات للرأي تفيد ان النظام في دمشق لا يزال يحظى بتأييد ما يزيد عن نصف السكان. مع ان الاستطلاع المذكور اقتصر على عيّنة من ألف مواطن سوري فقط، فإن الامر يستحق التعليق. عندما يكون اقل من نصف سكان سوريا بقليل لا يعارضون النظام في استطلاعات الرأي، بل يعارضونه بكافة اشكال الاحتجاج على مدى سنة بأكملها، يطالبون بسقوط النظام برمته ومحاكمة المسؤولين عنه، وعندما يلجأ جنود وضباط في القوات المسلحة الى الانشقاق والرد على عنف النظام المسلّح بالعنف المسلح، بل يلجأ محتجون مدنيون سلميون الى حمل السلاح، عندما تكون النسبة الاقل من نصف السوريين ممن يعارض النظام على هذه الحال، أليس الاجدر رمي حسابات «الاكثرية البسيطة» الى المزبلة؟
مهما يكن، لم يكن هذا التصويت الاكثري على الدستور ذا صلة بـ«حل» ما، بقدر ما كان اقرب الى تظاهرة قوة إعلامية للنظام لم تبزّ قوة الاعلام الخليجي، وذلك باعتراف رئيس الدولة ذاته.
ما له صلة بـ«حل» هو دخول سوريا مرحلة جديدة من مراحل التعريب والتدويل تتنافس عليها مشاريع «الحلول».
عاد «الحل اليمني» جريا على «المبادرة الخليجية» الى الظهور بعدما اقترحه الرئيس التونسي الجديد، المنصف المرزوقي، في افتتاح «مؤتمر اصدقاء سوريا». يفيد إلقاء نظرة عليه قيد التطبيق «على الارض» في اليمن. قضت المبادرة بأن يغادر رئيس دولة اليمن بعد اعفائه، ومعاونيه، من اي محاسبة او مساءلة او عقاب، من ارتكابات وجرائم وهدر وفساد خلال سنة من حكمه. وما ان غادر علي عبدالله صالح، حتى عاد بعد زيارة قصيرة الى الولايات المتحدة، ليسلّم الرئاسة الى نائبه، وعضو قيادة حزبه، عبد الرب منصور هادي. ولا يزال علي عبدالله صالح زعيم اكبر حزب في البلاد يتقاسم مقاعد مجلس الوزراء مع معارضة رسمية، اقوى مكوناتها «التجمع اليمني للاصلاح»، الحزب الاسلامي القبلي الذي حكم البلاد الى جانب علي عبدالله صالح معظم سنّي ولايته. ولا يزال الرئيس السابق يتزعم اكثرية نواب مجلس الشعب ويسيطر ابناؤه وابناء اشقائه على الاجهزة الامنية ووحدات النخبة من الجيش وعلى قسم كبير من القوات المسلحة بما فيها سلاح الطيران. تنهض في وجه هذه «المبادرة الخليجية » – التي تجاهلت ابرز قضيتين في البلاد – الحراك الجنوبي والحركة الحوثية – معارضة شعبية يلعب الشباب الثائر في امتداد المناطق اليمنية دورا كبيرا فيها من دون ان يقتصر الامر عليهم. تدعو المعارضة الى منع علي عبدالله صالح من ممارسة العمل السياسي واقصاء اعوانه عن القيادة العسكرية بقدر ما ترفض العفو عنه.
تحمل المبادرة الخليجية كل بصمات السياسة الاميركية لاستيعاب الثورات الشعبية. وحتى لا تترك الادارة الاميركية مجالا للشك في اعتمادها الدائم على الجيوش قاعدة للسلطة السياسية في البلدان العربية، اكد السفير الاميركي ان بلاده تحبذ استمرار التعاون مع ابناء علي عبدالله صالح واقربائه في الجيش والامن. وأردف معلنا قرار حكومته تأهيل وتدريب القوات المسلحة اليمنية تعزيزا لدورها في الحرب على الارهاب.
من جهته، كاد النظام السوري ان يقنع الادارة الاميركية بأنه يخوض معركة ضد «الارهاب الدولي» على خطى المخلوع علي عبدالله صالح. او هكذا تبيّن من تصريح بدا غريبا للسيدة كلنتون اعلنت فيه أن «تنظيم القاعدة» صار جزءا من المعارضة. لكن الموقف الاميركي يدور مدار اشكاليات جيو استراتيجية عويصة. يتجاذبه اغراء اضعاف ايران عن طريق تغيير النظام السوري او فك ارتباطه بها وتنتابه في المقابل الهواجس عن البديل وعن القوة القادرة على ضبط الحدود الشمالية لاسرائيل و«المونة» على حزب الله في لبنان. فهذا تصريح لكلنتون يجبّ ذاك، إذ انتقلت الى تحريض الجيش ورجال الاعمال والاقليات على الانشقاق وعادت الى التلويح بتسليح المعارضة.
على ان مشكلة الدبلوماسية الاميركية ان «الحل» العربي الذي اتكلت عليه معرّبا ومدوّلا وقع فيه الانشقاق. فمشكلة تطبيق «الحل اليمني» في سوريا ان راعيه الاصلي لم يعد يرتضي به حلا لسوريا. ذلك هو فحوى الانشقاق السعودي الذي قضى عمليا على نتائج مؤتمر تونس والالتحاق القطري به. ليست حسابات النظامين متطابقة، ففي حين يغلّب الاول حسابات العداء لايران، عادة ما يقيس المبادرات حسبما تقدم له من فرص الزعامة للحلول او لعب دور الوسيط الاوحد او الرئيسي فيها.
بانتظار جلاء مصير هذه الانشقاقات، يبقي «الحل» الروسي. وآخر اخباره ان النظام الذي يرفض محاورة شعبه – الا بالرصاص والقذائف – كلّف الراعي الروسي استمزاج بعض قادة المعارضة السورية في امر تشكيل الوزارة العتيدة. ومعلوم ان لروسيا منذ شهور مبادرات في هذا الموضوع بل ولها مرشحوها للرئاسة والتوزير.
وهذا لا يسمّى تدخلا في الشؤون الداخلية السورية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *