صباحاً، وأنا أحاول الهرب إلى الشباك من كل ما يجري، مرّت مسيرة تأييد حاشدة لطلاب المدرسة القريبة من بيتي في جرمانا، أكبر متظاهر مؤيد فيها لا يتجاوز الثامنة من عمره، يزعقون رافعي القبضات: بالروح بالدم نفديك يا بشار…
للحظات مرت كل حياتي أمامي، كأني سأموت للتو كما يقال في الأفلام، تذكرت رائحة الرعب التي شاركت في بناء خلاياي، الخوف من كل شيء: من عناصر الشرطة، التي من المفترض أن تكون في خدمتي، من رجال الأمن، الذين عليهم أن يحموني، حتى أن ذكر اسم الرئيس كان كفيلاً بجعل سائل حامض يحرق معدتي.
لسبب ما راحت طفولتي المجيّشة مع طلائع البعث تنسفح أمامي، وحاولت أن أستذكر أغنية وطنية واحدة وبعيدة تخلو من ذكر حزب البعث أو القائد.. لكني لم أتذكر!. بالمقابل تذكرت بأني لم أشعر يوماً بالانتماء إلى مكان أو شيء، لا لمقعدي ولا لصفي ولا لمدرستي، لأنها كلها ملك للحزب القائد، حتى العلم الوطني أشعر بأني لم أنتمي إليه يوماً كأنه علم للغير أو كأنه حكر على الآخرين. انتمائي كان لقرن الموز الذي كانت تتلمّظ به رفيقتي، والتي كانت سيارة سوداء فارهة توصلها كل يوم إلى باب المدرسة، كنت أنتمي إليه لأني أشعر بأنه من حقي.. انتمائي كان لطوابير الجمعيات الاستهلاكية وأفران الخبز التي لا أستطيع العودة إلى البيت دون أن أبلغ آخرها، وكان الوقت يطول إن كثر رجال الجيش أو المخابرات لأنهم سيحصلون بلمح البصر على طلبهم وأنا مازلت أنكمش في آخر الطابور مع غيري من (الفئران)، وكنا نشعر بحق أننا فئران.
في مراهقتي كنت واحدة من شباب ثورة البعث، عليّ أن أهتف بهتافاتهم كببغاء، وأصفق حين أسمع اسم القائد كمنعكس شرطي. وكان علي أن أنتسب إلى الحزب بشكل أوتوماتيكي و(مفروغ منه)، ولن أنس ما حييت عيني رجل المخابرات، الذي اسمه أستاذ القومية، وهي تفنجر في وجهي لأني همست بأني لا أريد الانتساب إلى حزب البعث، كما قال لي أبي أن أقول. لباسي المدرسي يجعلني ورفاقي في الصف أشبه بجيش من الأقزام الخائفين نحفظ أقوال القائد عن ظهر قلب، ونفخر بإنجازات ثورة البعث ونشوبش لها. وفي الجامعة كان الرعب أكبر مع اتحاد الطلبة الذي ينتظر تنهيدة تصدر عن فم أحدنا، وينتظرني كي أثبت وجودي في كل مسيرات التأييد وهتافات الولاء ومزاودات الانتماء وإلا…
اليوم وأنا على الشباك أرنو إلى جيش الصغار تبحّ أصواتهم من الهتاف فكرت بأني لا أريد لابني أن يحيا ما حييت، لا أريده ببغاء آخر في جيوش الببغاوات التي أجبرونا أن نكونها. أريده أن يحيا الحب لا الكره، لا أريد لأحلامه أن تعجّ بالأشباح السوداء التي لازالت تلوح كل يوم في أحلامي. فكرت بأني أريد لهذه الأجيال الجديدة أن تغني أغنية وطنية حقيقية لا تتغنى إلا بالوطن، أريدها أن تتعلم الكلام لا التلعثم الذي كبرت بين جنباته.. التلعثم الذي مازلت أقاوم سطوته على لساني حتى اليوم!
وحتى إن بدأت الأوراق تختلط أمام البعض، وحتى إن بدأ التلويح بحروب أهلية كي يخاف الناس حرية القول والفعل، وحتى إن كانت الأثمان كبيرة، كما أراها، فالحل الوحيد أمامنا، على ما يبدو، أن نحمل توابيتنا ونمضي، لا لشيء فقط كي لا يضطر أولادنا في زمن قادم إلى حمل توابيتهم لأجل أن يحيا أولادهم كما يحلمون، وكي لا يقول لنا أولادنا يوماً كما قال بعضنا لآبائهم: لماذا تلعثمتم كل هذا الوقت
روزا ياسين حسن
I am impressed by the grade of information about this website. There are numerous good tools