فترات تحول سريع

هناك تحولان مهمان يبدلان منذ بعض الوقت شروط ومسارات الحدث السوري: أولهما الانقلاب الواضح الذي تشهده البيئة السياسية العربية حيال النظام في دمشق، وهو جدي بكل معنى الكلمة ويفضي إلى مزيد من التدخل الخارجي في أحداثها، وثانيهما التحول المفزع الذي يشهده الحراك الشعبي الداخلي، ويجعل من الضروري والملح إجراء تغيير في نظرة المعارضة وقوى الحراك إلى أولوياتها.
– في المسار الأول: لم يقتصر الأمر على ما اتخذته جامعة الدول العربية من موقف ينحاز بكل جلاء إلى الشعب السوري المظلوم من جهة، ويطالب النظام بتغيير سياساته حياله من جهة أخرى، عبر وقف الحل الأمني وسحب الجيش من مدن سوريا وقراها، والاعتراف بفشل سياسات القوة في حل أزمة سياسية الطابع والمجريات والنتائج، تمهيدا للبحث عن تسوية تاريخية يشارك فيها الشعب، من شروط نجاحها أن لا يبقي النظام بعدها على ما كان عليه قبلها. هذه الرسالة الواضحة النص والمعاني، حاول النظام الالتفاف عليها عبر تعطيل المبادرة العربية بأحابيل وحيل مكشوفة قدر ما هي سخيفة. لذلك تخلت الجامعة عن موقفها التقليدي المتفهم حياله، الذي تمسكت به خلال سبعة أشهر، وصعدت قراراتها تجاهه، بينما كانت تصدر مواقف رسمية عن أعلى الجهات الحاكمة في بلدان عربية عرفت بصداقتها للنظام، منها الرئيس اللبناني الذي أعلن انحيازه للديموقراطية في البلدان العربية بوصفها خيارا لا عودة عنه، وملك الأردن عبد الله الثاني، الذي طالب الرئيس الأسد بالتنحي عن السلطة، لأن دوره انتهى، إلى فشل تعبر عنه طرق إدارة الأزمة السورية بأكثر الأشكال بعدا عن العقلانية ومجافاة لمصالح الشعب والدولة، ولأمن النظامين العربي والإقليمي، مع ما ترتب على ذلك من خروج الوضع الداخلي السوري عن السيطرة، وفتح أبواب البلاد أمام تدخلات دولية وإقليمية متعاظمة الخطورة. هذا التصريح لملك الأردن، الذي اشتهر بتحفظه حيال الأوضاع الرسمية العربية، وكان قد أقام صداقة وطيدة وحارة مع الرئيس بشار الأسد منذ لحظة توليه الحكم في سوريا، وأعانه على تخطي متاعب وعقبات كثيرة، ليس غير دليل قاطع على مدى التبدل في البيئة السياسية العربية حيال النظام في دمشق، الذي عالج أزماته بطريقة جعلت مخاطر الحدث السوري تتخطى حدود سوريا وتهدد المحيط العربي والإقليمي برمّته، مما دفع الملك إلى قطع شعرة معاوية من صديقه، والقول بصورة علنية: لو كنت مكانه لتركت السلطة.
في هذه الأثناء، كان الأتراك يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور، وينتقلون من سلبية التخبط، التي وصمت موقفهم السابق، إلى اتخاذ إجراءات عملية قالوا إنها ستكون متنوعة ومؤلمة منها احتضان وتسليح «الجيش السوري الحر»، الذي أعلن قائده رفض أي مخرج سلمي للأزمة، عندما قال إن النظام لن يسقط إلا بالقوة، وأعلن أنه سيبادر إلى شن عمليات متلاحقة ضد كل من لم يعلن انحيازه إلى الشعب من عناصر الأمن والقوات المسلحة، وكذلك قطع إمدادات الكهرباء عن سوريا! والتلويح بإقامة منطقة عازلة أو آمنة على الحدود، سيعني دخول تركيا على خط الصراع الداخلي السوري وبداية إضفاء طابع إقليمي عليه يمهد لطابع دولي يبدو أنه غدا وشيكا، بعد أن اكتسب طابعا عربيا من خلال قرارات الجامعة، سيزجان بسوريا في متاهة لا يعرف أحد متى تخرج منها، يمكن أن تسبب فوضى عارمة داخلها وخارجها، وأن تستمر لفترة غير قصيرة. في الوقت نفسه، تسارعت خطوات دولية تمهد لإجراءات قد تتخذ في مجلس الأمن يقال إن من شأنها إيجاد طرق لمعالجة الأزمة السورية تختلف عن ذلك النمط من التدخل العسكري المباشر، الذي حسم الأمور في ليبيا. أخيرا، أعلن بالأمس عن تشكيل لجنة خاصة بمتابعة الوضع السوري تضم أميركيين وبريطانيين وفرنسيين وأتراكا، في خطوة بالغة الأهمية والخطورة، تضع إدارة الأزمة السورية في يد بداية تحالف جديد، رأس حربته في تركيا، وقاعدته في العالم الغربي الفسيح، سيتسع دون شك في مقبلات الأيام، ليكون القوة التي ستتولى في النهاية حسم الأمور.
– في الداخل، وقع في الآونة الأخيرة انزياح حقيقي وخطير في الحراك الشعبي، ترتب على إمعان النظام في تطبيق حل أمني مفتوح ومتصاعد لا يراعي أي اعتبار سياسي أو أخلاقي أو وطني، من نتائجه اقتناع قطاعات متعاظمة الاتساع من المواطنين السوريين بضرورة اللجوء إلى السلاح: إما دفاعا عن النفس أو لضمان استمرار النضال في سبيل التخلص من النظام القائم. المشكلة أن هذا الانزياح يتم أكثر فأكثر بدفع منظم من السلطة، ومن بعض الأوساط المعارضة أيضا، ويخرج عن السيطرة السياسية سواء للمجلس الوطني أو لهيئة التنسيق، وأنه يسهم بدوره في فتح أبواب البلاد أمام أنواع مختلفة من التدخل الخارجي، بما في ذلك العسكري منه، بينما يهدد جديا بتعميق الانقسامات الاجتماعية والمذهبية داخل الصف الشعبي السوري، مع ما يحمله هذا التطور من دفع للأمور نحو حالة مركبة يتكامل فيها التدخل العسكري الخارجي مع العنف السلطوي المكثف والأعمى والاقتتال الداخلي المتعاظم، بعد أن صار جليا أن حل السلطة الأمني أوصلنا إلى حيث أريد له يصل بنا: إغلاق وتقويض سبل وإمكانات أي حل سياسي متوافق عليه يضع سوريا على طريق انتقالية تأخذها إلى الديموقراطية خلال فترة زمنية قصيرة، متوافق عليها بدورها؛ حل رفضه أول الأمر النظام، الذي استخدم العنف لإرغام الشعب على رفضه، من جانبه.
إلى الأمس القريب، كان هناك ضرب من سباق بين إمكانية الحل السياسي وواقع التدهور الأمني، واليوم تحول السباق إلى منحى آخر تختلط فيه احتمالات الانفلات الأمني الشامل، مع الاقتتال الداخلي المستنزف والمدمر، مع التدخل الخارجي المتدرج، مع تراجع الحراك المجتمعي السلمي الواسع والشامل، بما يعنيه ذلك كله من ظروف جديدة تتسم بتعقيد يتزايد بلا توقف ليجعل الأحوال المعقدة أصلا أشد تعقيدا باطّراد، ويخضع مصير سوريا لإرادات غير سورية، لم تعرف يوما بصداقتها للشعب السوري، ستضاف إلى إرادة سلطتها الراهنة التي فقدت حس الواقع والواجب بصورة مطلقة، وغدت أسيرة حل عنيف وفاشل قضى على أي وجود أو دور للعقلانية السياسية، أدى إلى انهيار مؤسسات السلطة وحزبها وجبهتها الوطنية، وإلى اختفائها العملي شبه التام من معظم مناطق سوريا، وخاصة من أريافها، وإلى تدمير الشأن العام إلى حد فرض عليها الانزواء جانبا والاكتفاء بالتفرج على الأحداث وهي تتفاقم وتتعاظم، والأخطار وهي تتراكم في كل قرية ومدينة وبيت وشارع، ضمن ظروف كان يجب أن تدفع بها إلى ممارسة دور استثنائي يتخطى دورها العادي والمألوف، لكنها ازدادت عجزا عن القيام بأي شيء، وانساقت وراء حل أمني دمرها وقوض مسوغات وجودها ذاتها، كما يلاحظ كل من يتابع الوضع السوري خلال الأشهر الثمانية الماضية، وجعلها عاجزة عن فهم الأزمة وإدراك معانيها، ووعي ضرورة حلها بما هي أزمة سياسية وليست مؤامرة خارجية تورط الشعب فيها، كما تقول قيادة الحل الأمني من أهل النظام.
يحدث هذا، بينما فقد الشعب صبره أكثر فأكثر، وانتقلت الأزمة إلى مجال لا يخضع لإرادة الحكام السوريين، ولن يتعين بخياراتهم، تحولوا فيه إلى طرف يتخذ موقفا دفاعيا ميؤوسا منه، كما تؤكد تناقضات وزير الخارجية وليد المعلم في مؤتمر صحافي له، فهم في الطريق إلى حال يكونون فيها قشة في مهب رياح داخلية وإقليمية ودولية، تتسم بدرجة متعاظمة من العداء ضدهم.
تزدحم سماء السياسة السورية باحتمالات بعضها منظور وبعضها الآخر خفي، بعضها جديد وبعضها الآخر قديم، بعضها يبرز بينما يختفي بعضها الآخر، مما يضع المسألة السورية أمام منعطف أخير وحاسم، تكتنفه أخطار لم تكن موجودة عند بدء الحراك، نجمت جميعها عن سياسات النظام الأمنية، العنيفة والفاشلة، ولكن التي يتمسك أهله بها إلى اليوم، ويبدو أنهم سيتمسكون بها في الغد أيضا، مع أنها ستلقي بسوريا عن عمد إلى الهاوية، بعد أن وضعتها على حافتها.
أمام هذا الواقع، لا يبقى من نجاة غير كثافة الحضور الشعبي في التظاهرات السلمية، واستعادة أهداف الحراك الأولى: المواطنة والحرية والمدنية والديموقراطية والوحدة الوطنية، مثلما برز بوضوح وقوة في تظاهرات يوم الجمعة  (18/11/2011 )، التــي كان الحضور الشعبي فيها كاسحا بحق، واستعادت أهزوجة مغني الانتفاضة شهيد حماه وسوريا إبراهيم القاشــوش، التي تؤكد كلماتها بإصرار أن: سوريا بدها الحرية، وأضـــيف من عندي: في وقت يبدو أنه بات قريبا!

ميشيل كيلو

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *