أن يعمل الجيش السوري على تقطيع الجغرافيا السورية بالدبابات والمدرعات، وتفصل قوات الأمن الحارات والمناطق بالحواجز والمفارز الأمنية، وكذا يتم قطع الاتصالات وشبكات الإنترنيت ووسائل الاتصال والتواصل الأخرى، ليست الطرق الوحيدة لضرب العزلة فيما بين مكونات وشرائح الشعب السوري. فبعد سنوات طويلة من تفريغ المجتمع من انتماءاته المدنية، سواء أكانت سياسية أم فكرية وإيديولوجية، وإعادته قسراً إلى انتماءات سابقة ما قبل مدنية، أي دينية وطائفية وعشائرية، كان ثمة مشكلة أخرى وخطيرة تخلق في المجتمع السوري وهو البناء المتعمّد والمخطط له لجدران مصمتة وعالية بين شرائح هذا المجتمع وطبقاته، وبين طوائفه وأديانه، وكذلك بين انتماءاته الفكرية والسياسية والإيديولوجية التي تقلّصت إلى الحدود الدنيا. هذه الجدران العازلة وغير المرئية جعلت كل مكوّن من هذه المكونات يخلق الأساطير والأكاذيب فيما يتعلق بالمكوّن الآخر. وعلى الرغم من أن إمكانات الاختلاط كانت متوافرة سواء في المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية إلا أن انغلاق كل طائفة ودين وطبقة وشريحة على نفسها كان يزداد يوماً بعد يوم، وبالتالي كانت ثقافة الديمقراطية وقبول الآخر وتمجيد الاختلاف ترشح باطراد من أخلاقيات المجتمع، وليس من أشكال حكمه وآلياته السياسية والقانونية فحسب.
أعتقد أن كثيراً من المولودين في أقليات طائفية سورية تعرضوا مراراً، إن في جامعاتهم أو وظائفهم، لأسئلة من قبيل: هل للعلويين أذناب؟ أو هل يعبد الإسماعيليون عضو المرأة؟ وهل يعبد الدروز العجل؟ وما إلى ذلك من الأسئلة المضحكة التي تنمّ عن جهل كامل بطوائف الشعب السوري. بالمقابل كانت طوائف الأغلبية، بطقوسها وشعائرها وتقاليدها، بمثابة فجوات سوداء كبيرة بالنسبة للأقليات الطائفية. وبما أن الجهل يولّد العداء تجاه المجهول، كما يولّد الخوف منه كذلك، فقد كان هذا الجهل الكبير مولداً للخوف والكره بالتالي بين السوريين. والأمر منسحب إلى حدّ كبير على الأقليات الإثنية والعرقية، وأظن أن الكثير من الأرمن مثلاً تعرضوا لسؤال ساذج من قبل أحدهم: هل الأرمن دمهم أزرق؟! هذا الجهل والخوف المبطن والعداء شبه الظاهر تجذّر مع الزمن ليتحول إلى إنكار لحقوق الآخر، تجريمه ومحاولات لطمس اختلافه ومميزاته، وبالتالي محاولات إدماج هذه الهوامش قسراً في المتن وصبغها بصبغته القومية أو الدينية السائدة. وهذا ما سبق واتضح علناً وسراً، وما إعادة تسمية القرى الكردية في الشمال والشمال الشرقي من سوريا بأسماء عربية إلا مثال بسيط على ذلك الطمس وتجيير الهامش للمتن، حتى أن الكثير من الأكراد لم يعودوا يعرفون أسماء ضيعهم، الأمر ذاته حصل مع قرى التركمان في الشمال الغربي من البلاد وقرى الأثوريين والسريان والكلدان وغيرهم. مما جعل هذه الأقليات الإثنية والعرقية والطائفية تتشرنق أكثر على نفسها وتنعزل عن بقية المجتمع.
هذه العزلة المتزايدة انسحبت أيضاً على الشرائح الفكرية والأيديولوجية تجاه بعضها، فانفصلت جبهة المثقفين وجبهة السياسيين مع مرور الحكم الإقصائي، على الرغم من أنها كانت أقرب إلى جبهة واحدة في العقود القليلة ما بعد الاستقلال، وصار العداء يتوالد ويكبر بينها، والاتهامات المتبادلة فيما بينهما استمرت منذ عقود وحتى اليوم. السياسيون يتهمون المثقفين بالتخاذل، وبأنهم دفعوا الأثمان في السجون والمنافي فيما كان المثقفون ينعمون بالصمت والخنوع. والمثقفون يصفون السياسيين بالرعونة وبحب الذات وبالعمل لأمجاد شخصية وما إلى ذلك.
منذ بدء الثورة في سوريا منذ خمسة شهور ونيف والنظام السوري يحاول أن يجني ثمار هذه “العزلات” التي كان يربّيها ويبذل عليها طيلة عقود طويلة، وقد نجح في الحقيقة وإلى حد ما في بعض المناطق، فمن المستغرب، والمؤسف حقاً، أن يكون إطلاق الرصاص على قدم وساق في شارع من شوارع ريف دمشق مثلاً، والشهداء يتساقطون إثر مظاهرة ما، بينما تجري الحياة على أهنأ ما يكون في الشارع المجاور لتلك المظاهرة. عزاء شهيد يقام في حارة واحتفال في الحارة المجاورة!!. ومن المؤسف كذلك أن يستطيع الإعلام السوري الرسمي إقناع بعض شرائح المجتمع بأن ثمة المئات من الجماعات المسلحة المنتشرة في معظم القرى والبلدات والمدن السورية، وهي التي تقوم بالقتل والترويع، فيما قد تكون إحدى تلك المناطق المزعومة قربهم ولطالما تعايشوا مع سكانها طيلة عقود، وطيلة عقود أيضاً لم يلمحوا أية جماعة مسلحة بينهم.
لكن وبمقابل هذا التشظي الوطني، الذي نلمحه عند بعض الأقليات الدينية والطائفية على الأخص وشرائح وطبقات المجتمع الأخرى، ثمة ما يتوالد في الجهة الأخرى، فالنظام السوري من حيث أراد تفعيل هذه العزلة عبر إعلامه وإشاعاته كي لا يتكاتف المجتمع السوري مع بعضه حدث عكس هذا وبدأت علاقات جمعية تتوالد مع الثورة، مناطق مختلفة تتعرف على بعضها للمرة الأولى، وطوائف تكتشف بعضها، وطبقات وشرائح كذلك. ووراء هذا الاكتشاف تتولد المعرفة التي تدحض كل الأساطير السابقة والثقافة الإقصائية الخاطئة التي كانت شائعة.
ذلك أن كسر العزل المنهجي بين السوريين صار شكلاً من أشكال الثورة، ومن أشكال التمرد على القبضة الممسكة بالأعناق. من دون سابق إصرار وتفكير صارت زيارة الأقليات الطائفية مثلاً لمجالس العزاء في مناطق التوتر أشبه برسالة ثورية للنظام ورسالة تقرب من أهل تلك المناطق، مع العلم أن واحدهم لم يكن يفكر بزيارة هذه المناطق البتة قبل الثورة. واليوم أضحى التكاتف والدعم المعنوي والمادي مع المناطق المصابة أشبه بثورة أخرى ضمن الثورة، ثورة لا تقتصر على المظاهرات بل هي ثورة على الذاكرة والتاريخ المكرّس وما أجبر السوريون على الامتثال له طوعاً أو قسراً.
يبدو أن الثورة السورية اليوم هي أقرب إلى ثورة عمودية منها بثورة أفقية، أي هي ليست ثورة طبقية ولا ثورة شرائح بل هي ثورة حرية لشعب، من مختلف الانتماءات والأصول، على سنوات القمع والذل والهوان، ولكن الأهم أنها ثورة تعمل على إعادة تشكيل المجتمع السوري من جديد، ثورة ستعمل على كسر الجدران العازلة بين السوريين، وربما كانت الأثمان القادمة باهظة ولكنها في النهاية، ومهما طال الوقت، ترسم ملامح مغايرة للمستقبل.
روزا ياسين حسن