التجربة البريطانية الجديدة , وهذيان الطغاة !!

كانت أحداث الجرائم الرهيبة التي داهمت لندن ومدنا إنجليزية أخرى، صدمة حقيقية كبرى لبريطانيا، شعبا، وحكومة، وطبقة سياسية، وثقافة سياسية، وقضاءا.
من قبل، حدثت أعمال شغب وعنف كبرى في لندن ومدن أخرى، كان للأقلية السوداء دور بارز في معظمها. أما أحداث شهر أب الحالي، فقد فاقت سابقاتها من حيث حجم الجرائم وشناعتها، وعدد ضحاياها، وخسائرها المادية. ومع أن بعض وسائل الإعلام اليسارية، وبالأخص البيبي بي سي، بدأت بوصف الجرائم بأعمال احتجاج، ومقترفيها ب” المحتجين”، إلا أنها تراجعت أمام استنكار الرأي العام البريطاني على هذا التوصيف لأعمال هي جرائم بحتة، من نهب، وحرق مخازن ومساكن، وقتل عن عمد وسابق إصرار.
وقد حاول بعض وسائل الإعلام العربية تفسير هجمة الجريمة المنظمة هذه بما اعتبرته ” التهميش”، و” العنصرية”، و” الفقر”، و” البطالة”، في تجاهل تام لحقيقة أن البطالة تشمل قطاعا واسعا من الشباب وليس بعض شرائح الأقليات العرقية وحدها، وأن الأزمة الاقتصادية وتدابير التقشف الصارمة أثرت على حياة ومعيشة عشرات الآلاف، وأن هؤلاء الموصوفين ب”المهمشين” يتلقون المساعدات البلدية ومنها السكن الرخيص. كما أن أي فقر وبطالة لا يبرران حرق المتاجر ونهبها، وحرق البيوت، ودهش البشر بالسيارات عن عمد.
لقد كتبنا مرارا في انتقاد الثقافة السياسية والممارسات القضائية البريطانية، التي تتصف بالتساهل المفرط مع دعاة العنف وممارسيها، ومع فقهاء الإرهاب والخارجين على قيم المجتمع والرافضين الاندماج. ومثل هذه الثقافة والممارسات سائدة بين أوساط اليسار الغربي عموما، وخصوصا في فرنسا والدول الشمالية. وسبق لنا، قبل سنوات، أن كتبنا سلسلة مقالات بعنوان ” اليسار الأوروبي والعنف”، مركزين على الساحة الفرنسية أيام حكم ميتران. ورأينا، بالوقائع والأرقام والتواريخ، تساهل الشرطة والقضاء مع مقترفي الجنح والجريمة من بين صبية وشبان المهاجرين الأفارقة والمغاربيين، وهي جنح وجرائم استمرت سنوات بعد سنوات، من نشل وسرقات، وحرق سيارات، وقذف رجال البوليس بكوكتيل مولوتوف، والعدوان على كبار السن، والاغتصاب. وفي يناير 1994، احتلت شلة من هؤلاء الجانحين ومفترفي العنف روضة أطفال في مدينة نيس لعدة ساعات أمام أطفال مرعوبين ومربيات عاجزات عن عمل شيء. وعندما طلب التلفزيون من الباحث الاجتماعي المكلف بدراسة ملف القضية تفسير العنف، فقد كان جوابه:” هؤلاء يشعرون شعورا قويا بالعزل الاجتماعي.” ولما سألوه عن نهب المجرمين لحانوت الروضة، فإنه قال:” هل قاموا حقا بسرقة؟ كلا. إنه مجرد تصريف لانفعال عميق مكبوت.” وهذا يذكرنا بموقف باحث اجتماعي فرنسي آخر من أعمال عنف وشغب في سنوات 1996 و1998، نهبت فيها المخازن في عدد من الضواحي الباريسية. كان تعليق الباحث لما حدث هو التالي:” عندما يقوم 50 شخصا بسرقة مخزن، فليس ذلك جريمة بل هو علامة الإحباط وخيبة الأمل.” ولكن ألا يقوم أحد القتلة مثلا بجريمته بدافع “إحباط” ما في حياته؟!! ومحترف الاغتصاب قد يمارس الجريمة بسبب إحباط ما في علاقاته مع المرأة، ألخ..
من حسن الحظ، وبرغم الإجراءات غير الكافية للشرطة في اليومين الأولين من جرائم لندن، أن رئيس الوزراء قد استعاد المبادرة، ومارس أقصى الحزم تجاه جرائم هزت المجتمع، وأدت لخسائر بشرية [ 5 قتلى] وخسائر بأكثر من مائة مليون جنيه أسترليني. وقد رفع كاميرون شعار أن لا تسامح مع رعاع اللصوص والقتلة [ صفر من التسامح]، مما يذكرنا بمبدأ جيلياني، عمدة نيويورك الأسبق، والذي هاجمته صحافة اليسار الفرنسي بسبب هذا المبدأ، وراحت تطلق عليه اسم ” موسولياني”- من موسوليني! وصحافة اليسار الفرنسي هي نفسها التي هاجمت وزير الداخلية الاشتراكي شوفنمان عندما أراد تطبيق إجراءات تجميد المعونة الاجتماعية بحق العائلات التي تترك أبناءها للشارع لاقتراف جريمة وجنحة بعد أخرى؛ وقد وصفوا شوفنمان بالانحراف نحو الفاشية!! ويبدو أن الحكومة البريطانية ستأخذ بمبدأ مشابه، ابتداء بإمكان طرد البلديات لمقترفي النهب من السكن البلدي. ونبه كاميرون لدور التربية العائلية والتربية المدرسية.
إننا نجد في مدن أوروبية كثرة من عائلات تعدد الزوجات، التي قد تنجب ما بين 8 وإلى 10 أطفال يتركون للشارع ليفعلوا ما يشاءون، وليهملوا الدراسة المدرسية بسبب فقدان الرقابة الأبوية. ونجد مثل هذه الظاهرة في ضاحية سان. سان. ديني الباريسية، ذات الكثافة السوداء، والتي تحولت لمملكة تهريب وتجارة المخدرات. ولو زرنا هذه الضاحية، [وبالمناسبة يقود اليسار بلدياتها]، لوجدنا مباني عصرية للبلديات مخصصة لأبناء الهجرة، وهناك واحد من أرقى المستشفيات الباريسية. ومع كل هذه الرعاية، فإن أعمال العنف وموجات الشغب تبدأ عادة من هناك لتنتشر إلى عموم الضواحي، وصولا للعاصمة نفسها.
لقد تم في بريطانيا اعتقال حوالي ثلاثة ألاف من مقترفي الجرائم، والمحاكم تشتغل على قدم وساق؛ ولكن يبدو ان القضاء يحتاج لهزة حقيقية أخرى، حيث أنها أطلقت سراح العديد من صغار السن بلا عقاب مع ثيوت مشاركتهم في الجرائم. وهذا ما أدى لاحتجاجات البوليس. ومما يدحض مزاعم إلقاء المسئولية على التهميش والبطالة، كون أن عددا من مقترفي أعمال النهب والحرق هم نساء وشبان يعملون في وظائف جيدة [ مثلا مصمم غرافيك، وموظف بريد، ومساعد لطبيب أسنان، ومساعد مدرس وغيرهم.]
نعم، كاميرون محق حين بنتفض على ما يعتبرها ظاهرة مريضة، فيقول:” إن رؤية هؤلاء الشباب وهم يهرولون في الشوارع، ويحطمون النوافذ، ويسرقون الممتلكات وينهبون وهم يضحكون توضح أن المشكلة وراء ذلك هي الغياب التام للمسؤولية الصحيحة، وغياب التربية الصحيحة، وعدم التنشئة السليمة، وغياب الأخلاقيات السليمة.”
اعتقد أن بريطانيا ما قبل تلك الأحداث لن تكون بريطانيا ما بعدها، أي الأخذ بمبدأ أن الحرية وسيادة القانون لا تتجزءان، فإذا غاب القانون، غابت الحرية، ألهم إلا لأعدائها.
والمتوقع أن تستفيد الدول الأوروبية الأخرى من التجربة، وهو ما تحتاجه دول الشمال على نحو خاص حيث لا تزال سيادة العقلية السياسية الملائكية، والتساهل المفرط باسم الديمقراطية والحرية.
والآن، وماذا عن طغاة المسلمين، وردود فعلهم؟
لقد سارع نظام القذافي للإعلان عن أن “كاميرون فقد الشرعية وعليه أن يستقيل”!!!لماذا؟ هل لأنه قتل بالدبابات والطائرات مطالبين بالحرية، أم لأنه يطارد مجرمين أثاروا غضب الشعب البريطاني كله؟!!
ومثله نظام دمشق، الذي راح يقارن قصفه للمتظاهرين برا وبحرا بمطاردة مجرمي لندن وأخواتها من النهابين، ومحترفي الحرق وقتل المواطنين دهسا بالسيارات. “إذن لماذا تهاجموننا ونحن أيضا نواجه المجرمين مثلكم؟؟”- هكذا يقول إعلام أسد الشام!
أما نظام الفقيه فقد أثارت ردود فعله مزاج التفكه والسخرية لما حملته من كمية غباء، وغرور، وتبجح ومغالطة، وخداع للذات. حكومة نجاد طلبت تدخل مجلس الأمن لمعالجة ” السلوك الوحشي للشرطة البريطانية”، وقال قائلها “كان يجب أن يقف القادة البريطانيون في صف الشعب وأن يصغوا إليه”، هذا الشعب الذي تقول إيران إنه ” نفد صبره، وبات بلا أمل في المستقبل.” وهكذا يتحول مجرمو بريطانيا إلى مجاهدين يجب التعامل معهم بكل رفق كما تعامل نظام الفقيه بمنتهى الرفق والتفهم مع شباب انتفاضة عام 2009 وجيل الشهيدة الشابة ندا سلطان أغاجاري؟!!! وهكذا يجب على بريطانيا الاقتداء بنظام الفقيه، الذي يقول أحمدي نجاد إنه وحده الذي يقدم “نمطا جديدا من الحياة السعيدة للبشرية “[ الحياة في 11 أب ]. وكيف؟ لأن إيران “أصبحت دولة نووية” كما يقول، وهي “تسير بسرعة تحو امتلاك تكنولوجيا الفضاء”- طبعا القنبلة والصواريخ هي خير بديل عن الخبز والعمل والحرية!!!
أما وكالة أنباء فارس، فجاءت بنكتة أخرى من نكت الموسم الإيراني، قد تكون قمة في فن النكت، حين وصفت موجة الجرائم في بريطانيا بأنها ” تشكل صحوة إسلامية تنبأ بها قبل أسابيع مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي، جين توقع امتداد أحداث الربيع العربي إلى قلب أوروبا”[ الحياة في12 منه].
نقول إن لم تكن هذه التصريحات والبيانات هذيانا، فماذا تكون!؟

عزيز الحاج

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *