المسيحيون في سوريا: ضحايا النظام والتطرف في آنٍ معاً….

 
         شهدت سوريا خلال العقود الأخيرة تراجعاً كارثياً في التواجد المسيحي، إذ تشير تقديرات متعددة إلى انخفاض نسبتهم من نحو 15% قبل عقود، إلى أقل من 2% في السنوات الأخيرة. هذا التراجع لا يمكن تفسيره بعامل وحيد، بل هو نتيجة تداخل عوامل سياسية وأمنية ودينية، تُحمِّل المسؤولية للنظام الحاكم من جهة، وللفصائل المتطرفة التي برزت خلال الثورة السورية من جهة أخرى.
دعاية الحماية وواقع التهميش
لطالما سوّق النظام السوري، في عهد حافظ الأسد ومن بعده بشار، نفسه كـ”حامٍ للأقليات”، وعلى رأسها المسيحيون. غير أن الواقع يعكس صورة مختلفة تماماً. فالعلاقة التي أقامها النظام مع بعض الشخصيات المسيحية كانت علاقة مصلحية وأمنية، تهدف إلى تلميع صورته خارجياً، لا إلى تمكين هذا المكوّن أو حمايته فعلياً.
وفق دراسة صادرة عن مركز Carnegie Middle East Center، فإن “التحالف بين النظام وبعض رموز الطوائف لا يعكس حماية جماعية بقدر ما هو توظيف سياسي لفئة محددة”، مشيرة إلى أن هجرة المسيحيين بدأت بصمت منذ سبعينيات القرن الماضي، نتيجة سياسات ممنهجة من الترهيب والتهميش السياسي والاقتصادي (المصدر).
التهميش في النص الدستوري
لا يتجلى التمييز ضد المسيحيين فقط في الممارسات اليومية، بل أيضاً في صلب الدستور السوري نفسه. فرغم الحديث عن “المواطنة المتساوية”، يحتفظ الدستور بنصوص تعزز الطابع الإسلامي للدولة، وعلى رأسها المادة التي تنص على أن “دين رئيس الجمهورية هو الإسلام” (المصدر: دستور سوريا 2012). هذا الإقصاء الدستوري يجعل من المستحيل أن يتولى مسيحي منصب الرئاسة، ويؤكد أن الدولة لم تكن يوماً علمانية فعلياً.
الفصائل الجهادية وتكريس الخوف
في المقابل، لعبت الفصائل الجهادية التي ظهرت خلال الثورة السورية دوراً مدمراً في تفريغ مناطق واسعة من المسيحيين، خصوصاً في الرقة ودير الزور وبعض مناطق إدلب. فقد فرضت تنظيمات مثل “جبهة النصرة” و”داعش” الجزية على المسيحيين، وصادرت ممتلكاتهم، وأجبرتهم على المغادرة تحت التهديد، بحسب تقارير موثقة من Human Rights Watch (HRW Report, 2014).
هذا الواقع خلق حالة من الاستقطاب الحاد، دفعت المسيحيين إلى الهجرة الجماعية، بحثاً عن الأمان والاستقرار، في ظل انعدام الخيارات السياسية أو الحماية الفعلية من أي جهة داخلية.
ضحايا على مفترق الطرق
إن قراءة متأنية للواقع السوري تكشف أن المسيحيين وقعوا ضحايا على مفترق طرق: فهم مُضطهدون سياسياً ضمن بنية النظام، ومستهدفون دينياً من قبل الجماعات المتطرفة. وما يُفترض أنه “تحالف مع النظام” لبعض الشخصيات، لا يمكن النظر إليه كامتياز جماعي، بل كصفقات فردية لا تمثل عموم الطائفة.
والسؤال الأهم اليوم ليس فقط: من يتحمل المسؤولية؟ بل: ما هي الضمانات المستقبلية لعودة آمنة وكريمة لهذا المكوّن، في دولة تحترم المواطنة والمساواة، بلا تمييز على أساس الدين أو الطائفة؟
الهجرة المسيحية من سوريا لم تكن خياراً، بل كانت نتيجة حتمية لتقاطع الاستبداد السياسي بالتطرف الديني. وإذا لم يُبذل جهد حقيقي لبناء دولة قانون علمانية حقيقية، فإن ما تبقى من التنوع السوري مهدد بالزوال، إلى غير رجعة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *