إشكالية إعادة بناء الجيش في الدول الهشّة: سورية نموذجاً بعد 2024!

      تعود بدايات التشكّل الأول للجيش السوري إلى فترة الانتداب الفرنسي، حين أنشأت سلطات الانتداب ما عُرف بـ”القوات الخاصة للشرق”، وهي وحدات عسكرية محلية خاضعة للقيادة الفرنسية، ضمّت عناصر من مختلف المناطق والطوائف. لم يكن الهدف آنذاك بناء جيش وطني مستقل، بل إنشاء قوة أمنية تضمن السيطرة الاستعمارية. ومع الاستقلال عام 1946، ورثت الدولة السورية هذه التشكيلات لتكون نواة الجيش الوطني، في ظل ضعف مؤسسات الدولة وقلة الخبرة الإدارية والعسكرية.

مع وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، ثم تثبيت حكم حافظ الأسد عام 1970، تحوّل الجيش تدريجياً من مؤسسة مُسيّسة إلى أداة سلطة. لم يعد معيار الترقي والكفاءة مهنياً بحتاً، بل بات مرتبطاً بالولاء السياسي–الأمني. ورغم الخطاب القومي السائد، جرى تفريغ مفهوم “الجيش الوطني” من مضمونه، دون أن يعني ذلك غياب وطنية الأفراد بقدر ما يعني انحراف وظيفة المؤسسة نفسها.

في عهد بشار الأسد، تعمّق هذا المسار على نحو حاد. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، استُخدم الجيش في صراع داخلي واسع، ما أدى إلى انشقاقات واستنزاف بنيوي، وانهيار واسع للثقة المجتمعية بالمؤسسة العسكرية. وعند سقوط النظام في ديسمبر/كانون الأول 2024، لم ترث الدولة الجديدة جيشاً وطنياً جاهزاً، بل مؤسسة منهكة ومحمّلة بإرث ثقيل من العنف والتسييس.

وبعد مرور عام على سقوط النظام، تبيّن أن التحدي الحقيقي لا يكمن في إعادة الانتشار العسكري فحسب، بل في إعادة تعريف وظيفة الجيش ذاتها. فمحاولات الهيكلة، والتسريح، والدمج، بقيت محدودة الأثر ما لم تُربط بسؤال أعمق: لمن يخضع الجيش؟ ومن يمنحه الشرعية؟

هنا تبرز حقيقة لا يمكن تجاوزها، وهي أن القوة التي حرّرت دمشق تحمل أيديولوجية دينية جهادية تشكّلت في سياق حرب طويلة. وهذا توصيف بنيوي لا ينطوي على إدانة أخلاقية بقدر ما يعبّر عن معطى واقعي. غير أن هذه الأيديولوجية تستند إلى مصدر شرعية متعالٍ على المجتمع، في حين تقوم الدولة الحديثة على التفويض الشعبي والقانون الوضعي. ويجعل هذا التعارض الانتقال من منطق “الجماعة العقائدية” إلى منطق “المؤسسة الوطنية” معضلة مركزية في مسار بناء الجيش.

في الحالة السورية، تتقاطع مسألة الجيش مباشرة مع شرعية السلطة الجديدة. فإسقاط النظام والسيطرة العسكرية يمنحان شرعية ثورية مؤقتة، لكنها لا تتحوّل إلى شرعية دولة

وتؤكد الخبرات المقارنة خطورة تجاهل هذا التناقض. ففي ألمانيا بعد النازية، جرى تفكيك العقيدة العسكرية وربط الجيش بالدستور والرقابة المدنية الصارمة. وفي جنوب أفريقيا، دمجت قوى مسلحة متصارعة ضمن عقد وطني جديد قائم على المواطنة المتساوية. أما العراق بعد عام 2003، فيقدّم مثالاً تحذيرياً على تفكيك الجيش دون وجود بديل وطني جامع، ما فتح الباب للفوضى والمليشيات. والدرس هنا واضح: لا حلّ بالاجتثاث الكامل، ولا بالاستيعاب غير المشروط.

في الحالة السورية، تتقاطع مسألة الجيش مباشرة مع شرعية السلطة الجديدة. فإسقاط النظام والسيطرة العسكرية يمنحان شرعية ثورية مؤقتة، لكنها لا تتحوّل إلى شرعية دولة إلا عبر القبول الصريح بقواعدها، وعلى رأسها احتكار العنف المشروع، وخضوع الجيش لسلطة مدنية، ومنع استخدام الدين أو السلاح مصدراً دائماً للشرعية السياسية.

وفي هذا السياق، لا يعود الجيش مجرد أداة أمنية، بل يصبح العمود الفقري للشرعية السياسية نفسها. وهو ما يجعل خطر “العسكرة المقنّعة للسلطة” حاضراً بقوة، حتى وإن رُفعت شعارات مدنية أو أُنشئت مؤسسات شكلية. وتُظهر التجارب التاريخية أن الدول التي فشلت في ضبط هذه العلاقة انتهت إما إلى حكم عسكري مباشر، أو إلى حكم أيديولوجي يستند إلى السلاح بوصفه مصدر الحق.

الخطر الحقيقي، إذاً، هو استبدال جيش سلطة ذي عقيدة سياسية بجيش عقيدة دينية، مع بقاء الجيش مصدراً للشرعية بدل أن يكون خاضعاً لها. لذلك، فإن بناء جيش وطني حيادي في سورية ليس مسألة تنظيمية أو تقنية فحسب، بل معركة على تعريف الدولة نفسها. فإذا أُعيد تأسيس الشرعية على العقد الاجتماعي والقانون، يمكن للجيش أن يصبح، للمرة الأولى، جيش دولة. أما إذا بقيت الشرعية مستمدة من النصر والعقيدة، فلن يكون الناتج سوى إعادة إنتاج الأزمة بأدوات جديدة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *