خريطة الطريق: بوابة إلى مصالحة أم إلى عاصفة تدويل…

الخريطة تضمنت ثلاثة مسارات أساسية: أولها، تعزيز الأمن عبر وقف إطلاق النار وتشكيل قوات شرطية محلية ومجالس إدارية ذات طابع تشاركي، تهدف إلى طمأنة المجتمع المحلي بأن الحل سيكون من الداخل. ثانيها، فتح مسار للمحاسبة القضائية من خلال الجمع بين لجنة التحقيق الدولية والقانون السوري، في محاولة لإظهار جدية في مسألة العدالة. ثالثها، إطلاق مشاريع خدمية وإعادة إعمار لإعادة الثقة بين الدولة والسكان وتحقيق اندماج اقتصادي واجتماعي. بهذا الطرح، أرادت دمشق أن تبعث برسالة مزدوجة: الانفتاح الخارجي لإرضاء الشركاء الدوليين، والسيطرة الداخلية لتأكيد سيادتها.

لا يُعقل أن يكون المتهم هو ذاته القاضي” – هكذا ترد السويداء على خريطة الطريق السورية، رافضة احتكار دمشق لسلطة المحاسبة في قضايا المجازر والانتهاكات

لكن اللجنة القانونية قرأت هذه البنود بشكل مغاير تماماً. ففي ما يتعلق بالعدالة، رأت أن الإشارة إلى لجنة التحقيق الدولية، مع الإبقاء على دور القضاء السوري، تمثل تناقضاً صارخاً يُفرغ العدالة الدولية من مضمونها. فبحسب تعبيرها، “لا يُعقل أن يكون المتهم هو ذاته القاضي”. بمعنى أن الحكومة السورية، المتهمة بالمسؤولية عن المجازر والانتهاكات، لا يمكن أن تحتكر سلطة المحاسبة. هذا الطرح يعكس انعدام الثقة المزمن بالقضاء الوطني، الذي وصفته اللجنة بأنه قضاء مسيّس وخاضع للسلطة التنفيذية. وبالتالي، فإن أي محاكمة محلية في نظرها لن تكون أكثر من “واجهة شكلية لتبييض الجرائم”.

في الشق السياسي والإداري، اعتبرت اللجنة أن الحديث عن تشكيل مجالس محلية وقوات شرطية مشتركة ليس إلا محاولة لفرض وصاية جديدة على السويداء، وإعادة إنتاج الانقسامات الداخلية عبر الدفع بشخصيات فقدت شرعيتها المجتمعية. هذا الطرح، بحسب اللجنة، لا يفتح طريق المصالحة، بل يؤدي إلى تعميق الانقسام وإشعال نزاعات جديدة. هنا يظهر بوضوح التباين بين رؤية الدولة التي ترى في المؤسسات المحلية وسيلة لإعادة دمج المحافظة في بنيتها، ورؤية اللجنة التي ترى في هذه الخطوة شكلاً من أشكال الإقصاء والوصاية.

الأكثر حساسية كان البند المتعلق بحق تقرير المصير. فاللجنة لم تكتفِ برفض صيغة المصالحة المقترحة، بل لوّحت بخيار الإدارة الذاتية أو حتى الانفصال حلاً أخيراً لضمان أمن وكرامة ووجود أبناء السويداء. هذه لهجة تصعيدية تعكس حجم الإحباط والغضب من تعامل دمشق مع المحافظة، لكنها في الوقت نفسه تضع المجتمع الدولي أمام معضلة قانونية وسياسية. في المقابل، حق تقرير المصير مبدأ معترف به في القانون الدولي، لكنه غالباً ما يُطبق في سياقات الاستعمار أو الاحتلال، وليس في حالة أزمات داخلية لدولة ذات سيادة. ومن جهة أخرى، المجتمع الدولي قد ينفتح على دعم أشكال من الحكم المحلي الموسّع أو الإدارة الذاتية، لكنه سيتردد في تأييد أي انفصال فعلي.

المستقبل هنا مرهون بمدى قدرة دمشق على تقديم ضمانات ملموسة. فإذا تحولت الدعوة للجنة التحقيق الأممية إلى آلية حقيقية وفعّالة، بإشراك مراقبين دوليين مستقلين وضمان شفافية المحاسبة، فقد تفتح نافذة جديدة للتفاهم مع السويداء وتقلّص التوتر. لكن إذا بقيت هذه الخطوات شكلية، فإن الرفض سيتصاعد، ومعه احتمالات تدويل الملف بشكل أكبر، سواء عبر مجلس الأمن أو عبر منظمات حقوقية دولية. وفي هذه الحالة، قد تجد دمشق نفسها أمام أزمة أكثر تعقيداً، خاصة إذا اقترن الغضب المحلي مع ضغوط خارجية متزايدة.

بالمحصلة، ما يجري في السويداء ليس خلافاً تقنياً حول بنود إدارية أو قضائية، بل هو صراع جوهري حول الشرعية. فبينما تسعى الدولة لإثبات أنها الطرف الوحيد القادر على إدارة العدالة وضمان الأمن، ترى اللجنة القانونية أن هذه الدولة فقدت مصداقيتها تماماً، وأن الحل لا يمكن أن يأتي من داخل مؤسساتها. وهذا التناقض هو ما سيحدد مستقبل المحافظة: هل تمضي باتجاه مصالحة مشروطة داخل إطار الدولة، أم تفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة، مثل الإدارة الذاتية أو حتى الانفصال. في جميع الأحوال، الأزمة في السويداء مرشحة لأن تكون اختباراً حقيقياً لشكل الدولة السورية الجديدة بعد سقوط النظام السابق.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *