الضحية ومسألة ستوكهولم وكيس الحاجة …
جورج بنا , ميرا البيطار :
تصيب عقدة كيس الحاجة المثقفين من الأقليات مثل المسيحيين والدروز والكرد وغيرهم , كنماذج يمكن ذكر ادوارد سعيد وميشيل عفلق وغيرهم من الذين عاشوا بشكل رئيسي في البيئة المحمدية , كيس الحاجة كان استعارة تاريخية من العهدة العمرية, التي طبقها الخليفة عمر على المشركين في بلاد الشام وفي اوروشليم وغيرهم من المناطق بعدالغزو والفتوحات بداية من عام ١٥ هجري , أي بداية عصر الاذلال والنبذ .
تعني عقدة كيس الحاجة عمليا ان يقوم الأقلوي المشرك بحمل كيس فارغ يضع به حاجات المؤمنين لنقلها الى حيث المؤمن يريد , اي حمال مجانا , وبذلك تكون مع الزمن عند هؤلاء الأقلويين عقدا نفسية مضمونها الاحساس بالنقص والدونية أمام الأغلبية الدينية بسبب الخوف المزمن والتبعية التاريخية , تجلى ذلك بعدة مظاهر منها التبني المطلق لخطابات الأغلبية الغالبة, ثم ممارسة التملق والمديح , الذي تطور عند سياسي بعثي عروبي مثل ميشيل عفلق الى اعتبار العروبة والاسلام شيئا واحدا , اي الرضوخ السياسي للدينية خاصة ماتسمى المركزية السنية.
تتشكل هذه العقدة في سنوات الحياة الأولى , اذ يشعر الطفل مثلا في المدرسة بأن التعامل معه مختلف عن التعامل مع غيره , حيث عليه على سبيل المثال ان يردد شعارات وهتافات متنكرة لانتمائه المذهبي او السياسي , كما يحدث الآن في المدارس وكما حدث ايام الأسدية والناصرية , عندما كان التلاميذ يرغمون على الاجابة على سؤال طرحه الأستاذ مثل سؤال من هو رئيسنا ؟ وعلى الجواب الجماعي بصوت مرتفع شبيه بالزعيق ان يكون حافظ الأسد الى الأبد , يعجز عقل التلميذ في هذه الحالة عن تفسير وفهم ذلك , خاصة عندما تؤثر التربية الأسرية على عقله ومفاهيمه في البيت بشكل معاكس لمضمون صراخ الهتافات , ومع الزمن والاعادة والتكرار يعتقد التلميذ بأن هذا التناقض والخلل يعود لسبب فيه , وليس في النظام التعليمي والممارسات في المدرسة , اذ لايعقل أن يكون الجميع أو الأغلبية على خطأ والتلميذ مع عائلته على صواب , ليسلبه هذا الشعور اي ثقة بنفسه وبالتالي كرها واحتقارا لذاته , لذلك يبحث هؤلاء بعد البلوغ عن طرق لاعادة الاعتبار لنفسهم منهاعلى سبيل المثال الانتماء الى الأممية الماركسية أو السورية القومية الرافضة للطائفية المذهبية , التي تسببت بتلك العقدة النفسية , حملت تلك الاتجاهات حلما ورديا وأملا عند تلك الأقليات بالعثور على مهرب من الاضطهاد الديني او المركزية السنية , الذي اتى بشكل رئيسي من العهدة العمرية والعقيدة الدينية التي انتجتها .
اضافة الى عقدة ” كيس الحاجة “ولدت عقدة اخرى في نفوس الأقلويين , تلك العقدة كانت عقدة ستوكهولم , التي تشعر الضحية بكونها ملزمة بالدفاع عن الجاني حتى الاستماتة, اي هناك عقدتان هما عقدة ” كيس الحاجة” المتجلية في التبني المفرط لاتجاهات الأغلبية الغالبة وعدم التجاوز عليها بالنقد والتقويم او التحليل لخطابها ومتبنياتها, ثم عقدة ستوكهولم المتجلية بضرورة الدفاع عن الجاني , قارب المفكرجورج طرابيشي ذلك باطلاقه على المصابين بتلك العقد النفسية اسم “الخصاء أو المخاصي ” اي أنه اعتبر تلك الأقليات مخصية , ولكونها مخصية تصبح عاجزة امام الغلبة الغالبة ,مما كرس تراجع مفاهيم التنوير والعقلانية في هذه المنطقة , ثم تكريس شعور الغلبة الغالبة بالتفوق العددي بالاستعلاء وتضخم الذات التوهمي ثم النرجسية بأبشع صورها , الامر الذي ساهم بتراكم السلبيات وترسيخ التوهمات وتورم العصبويات التي يعيشونها منذ عشرات القرون.
لايختلف تطور ومسلكيات الأقليات خارج الدين الحنيف عن تطور ومسلكيات أقليات الدين الحنيف مثلا الشيعة الذين أصيبوا بالاخصاء كغيرهم وبعقدة ستوكهولم ثم عقدة كيس الحاجة ,والسبب كان المركزية السنية,لقد ارغمت تلك العقد النفسية العديد من أفراد الأقليات على الانصياع والطاعة للمركزية السنية , وذلك بالرغم من احتقار هذه المركزية للأقليات, وبالرغم من نظرة هذه المركزية الفوقية تجاههم ,تجذر الارغام على الخنوع واعتبار تلك الأقليات كفرة منحلين وانجاس او طوابير الغرب وعملائه في نفوس الأقليات , الى حد تحول بعض الأقليات الى “ملكية اكثر من الملك”, تتودد لقامعها ومحتقرها وتنصاع له بشكل مريب جدا, كل ذلك كان من أجل حيازة المقبولية من قبل تلك المركزية ولاثبات وطنيتها المشكوك بها دائما .
عاد ذلك التطور الاستسلامي الى العديد من العوامل منها تسامي هؤلاءالمثقفين من الأقليات عن الهويات المذهبية والدينية وانتقالهم الى فضاء القيم الكونية مثل التوجهات العلمانية, وذلك بالرغم من أن الاعتراض على المذهبية عقلاني وموضوعي وضروري ,تجاهل هؤلاء عمدا حقيقة المركزية السنية , لعدم رغبتهم في المواجهة ولكون اتجاهاتهم معاكسة لمبدأ العنف والغلبة والهيمنة السلطوية الغير معروفة عند هؤلاء الكفرة ,الذين لم يدركوا النتائج المتوقعة لتساميهم واحجامهم عن المواجهة ,مما قادهم الهجرة , لقد فضلوا الهجرة والهروب على المواجهة , لم تدرك المركزية السنية حقيقة جوهر ذلك التسامي وفسرته كانهزام الضلال امام الحق والصواب.
لقد كان من الصعب بالنسبة لهذه المركزية المتمركزة تراثيا حول الغلبة والنصر بالسيف والاخضاع والعنف استيعاب قيم التسامي , مما كرس التشدد وبالتالي تكريس التبعية والاذعان والانقياد لتلك المركزية ,اضافة الى ذلك كانت هناك ظاهرة النكوص الممثلة لآلية تقوم الذات بمقتضاها بعملية الارتداد او العودة النفسية الى مرحلة تطور سابقة , هناك أيضا ظاهرة مقتل روح التمرد والمواجهة عندهم, ثم عوامل أخرى منها الكبت الممثل لعملية نفسية لاشعورية تتم في نطاق اللاشعور وتحول دون خروج الرغبات المؤلمة او المحرمة الى مجال الشعور ,ثم النكوص الممثل لآلية تقوم بمقتضاها الذات بعملية الارتداد او العودة النفسية الى مرحلة سابقة,ثم التعويض الممثل لعملية نفسية تقوم بها الذات بقصد التغلب على الشعور بالقلق والضعف والدونية من خلال التفوق في ميدان اخر , ثم التقمص الممثل لآلية دفاعية لاشعورية يقوم الفرد بموجبها بالميل الى الاندماج بشخصية أخرى , ُثم التبرير الممثل لأهم اليات الدفاع اللاشعورية التي يقوم بها الانسان العصابي من خلال اتهام الاخرين بالسلوك الخاطىء بدل توجيهه للاتهام نحو المسبب الحقيقي.
لايهدف هذا العرض المقتضب لتحريض الاقليات على المركزية السنية والدعوة الى التمرد السياسين والانتفاضة الفكرية ضدهم , انما للقيام بثورة بناءة على هذه المركزية وتعريتها وتحليلها ودراستها ,لايمكن لشعوب هذه المنطقة دخول باب التنوير والحداثة الا من خلال النقد والتقويم والتفكيك لجميع الخطابات السياسية والثقافية والاجتماعية التي استندت عليها تلك المركزية ,هنا يجب الاعتراف بأن تلك المركزية لاترغب بالنقد ولا تريده , لأن النقد حسب زعمها ينال منها , وهي المحتكرة للمقدس ,كان لتفريغ الحياة من السياسة وملئها بالديني عن طريق ما تسمى الغلبة الغالبة نفس كارثية التقديس .
موقفنا من الذين هاجروا متأرجح بين التفهم لهجرتهم وبين عدم التفهم لتلك الهجرة , لقد كانوا من المؤثرين جدا في مجال الحياة المدنية مثل انطون سعادة , الذي تم ارهابه الى ان وصل الأمر الى القضاء عليه جسديا , هاجر عدة مرات قبل اغتياله وعاد ليتلقى الرصاص في صدره , هناك ايضا جورج طرابيشي وهناك ادونيس والعديد غيرهم في هذا العصر وفي العصور القديمة مثل العصر العباسي ,ففي العصر العباسي كان حنين ابن اسحق وابنه اسحق ابن حنين اللذان ترجما مئات الكتب من اليونانية وساهما كأفراد بشكل كبير في مجال العلم والثقافة ,لم تكن حياة حنين رغيدة اذ سجن عدة مرات .
خلاصة القول , تسبب الهاربون المهاجرون من الأقليات خاصة المسيحية بشكل غير مباشر في تمادي المركزيات الدينية المحمدية في هذا العصر, لربما كان بمقدورهم التأثير على تلك المركزية باتجاه الحداثة والتنوير, لقد كانوا عماد المدنية العلمانية, والبلاد تتحول الآن الى كيان مذهبي اصولي محمدي ,لا نظن أن الهجرة كانت اولية بالنسبة لهم , ولكنهم ارغموا حقيقة على الهجرة خاصة في الحاضر وفي الماضي القريب والبعيد مثل عام ١٨٨٦ , لايزال منهم في البلاد بعض مئات الأولوف من أصل عدة ملاين, وحال العراق مشابه , هؤلاء يجلسون على حقائبهم استعدادا للهجرة , كما حصل في العراق وفي فلسطين ويحدث في مصر وحدث في السودان وفي لبنان وغيرهم !.
Post Views: 9