السويداء والخطأ الاستراتيجي: كيف حوّلت دمشق القوّة إلى مأزق؟

 

كاريكاتير صحيفة سعودية.. المفاوضات الحل الأمثل لإنهاء أزمة ...        أخطأت السلطة الحالية في دمشق لأنّها دخلت السويداء وهي أسيرة لوهم صنعته بنفسها: ظنّت أن وصفة “الضبط بالقوة” التي نجحت معها في الساحل قابلة للاستنساخ حرفياً في بيئة تختلف جذرياً، من حيث البنية الاجتماعية وشبكات الامتداد عبر الحدود وحساسية الهوية. وما منح هذا الوهم زخماً كان قراءة متفائلة لرسائل دبلوماسية ملتبسة خرجت من اللقاء الأول في أذربيجان؛ إذ فهمت دمشق أن إسرائيل لن تضع فيتو على دخول وحدات الجيش إذا قدم التدخل باعتباره “استعادةً للأمن” في مواجهة انفلات السلاح والصراع الأهلي، لكن سوء الفهم في السياسة الخارجية لا يترتب عليه فراغ، بل يترتب عليه حساب خاطئ للقوة وحدودها، وهنا بدأ الخطأ الاستراتيجي الذي تحوّل سريعاً إلى مأزق.

من الجدير بالذكر أن ما بدأ في اللاذقية لم يكن حالة مفاجئة أو تجربة عشوائية، بل كان تدخلاً للسلطة في مواجهة فلول النظام السابق الذين كانوا سبباً مباشراً في الهجمات على الساحل، وهو ما وفّر لها مبرراً لفرض القوة على نحوٍ واسع هناك. أما السويداء، فكانت حالة مختلفة تماماً، تُظهر كيف أن السلطة أساءت تقدير واقع الجنوب، وخلطت بين نموذج “الساحل” وخصوصية البنية الاجتماعية الدرزية، فدخلت في سباق تحليل مضلّل بين واقع المنطقة وتقديراتها السابقة.

لم تمضِ سوى أيام على بدء العملية في السويداء حتّى انهارت فرضية “الموافقة الضمنية” مع أولى الضربات الإسرائيلية الواسعة، التي طاولت مواقع في المحافظة وعلى نحو أكثر إحراجاً مراكز حساسة في دمشق نفسها، بذريعة حماية الدروز ومنع توسع العمليات الحكومية جنوباً. بهذا المعنى، ما حسبته السلطة “نافذة فرصة” تبيّن أنه حقل ألغام مفتوح على تدخل إقليمي مباشر يملك تفوقاً جوياً لا تستطيع مجاراته.

أما السويداء، فكانت حالة مختلفة تماماً، تُظهر كيف أن السلطة أساءت تقدير واقع الجنوب وخلطت بين نموذج “الساحل” وخصوصية البنية الاجتماعية الدرزية

وإذا كانت القوة في اللاذقية قد اشتغلت على تعبئة الخوف الداخلي والاصطفاف حول “الحامي”، فإن السويداء كانت، بحكم تاريخها القريب، أكثر امتناعاً على هذا النمط. فالمجتمع الدرزي هناك يدير أمنه المحلي منذ سنوات عبر شبكات متفرعة من الفصائل والمرجعيات الأهلية، ويملك امتدادات تضامنية مع دروز فلسطين والجولان تجعل أيّ عنف واسع ضدّه مادةً لتحرك سياسي وإعلامي خارج الحدود. وحين دخلت وحدات من الداخلية والجيش على وقع تصاعد الخطف المتبادل والكمائن القبلية، لم تستقبلها البنية المحلية بوصفها “قوة ضبط حيادية”، بل بوصفها طرفاً جديداً في معادلة ثأرية متقلبة، فتبدّلت فوراً الصورة التي أرادت دمشق تسويقها عن نفسها حكماً محايداً إلى صورة طرف في نزاع أهلي.

تعمقت هذه الصورة بوقائع موثقة: من تقارير “هيومن رايتس ووتش” عن انتهاكات وسلوكيات عقابية وسوء حماية للمدنيين، إلى مشاهد صادمة من داخل مستشفى السويداء الوطني وثقتها منصات محلية وراجعتها وكالات عالمية، أظهرت قتلاً ميدانياً لشخص أعزل على أيدي عناصر بزي عسكري داخل حرم طبي، قبل أن تعلن الداخلية فتح تحقيق وتعيين مسؤول أمني رفيع للإشراف عليه. هذه الحوادث لا تغيّر ميزان الرصاص فحسب، بل تغيّر ميزان الشرعية أيضاً: من يستدعي العدالة بعد وقوع جريمة داخل مستشفى لا يستطيع في الوقت نفسه ادّعاء احتكار مشروع للعنف من دون مساءلة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *